إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 07-01-1435هـ




متن الدرس

الباب الثامن: في زكاة القلب

الزكاة في اللغة: هي النماء والزيادة في الصلاح، وكمال الشيء، يقال: زكا الشيء إذا نما، قال الله تعالى: (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) [التوبة: 103]. فجمع بين الأمرين: الطهارة والزكاة، لتلازمهما. فإن نجاسة الفواحش والمعاصي في القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، وبمنزلة الدغل في الزرع، وبمنزلة الخبث في الذهب والفضة والنحاس والحديد، فكما أن البدن إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة تخلصت القوة الطبيعية منها فاستراحت، فعملت عملها بلا معوق ولا ممانع، فنما البدن، فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت إرادة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة: زكا ونما، وقوى واشتد، وجلس على سرير ملكه، ونفذ حكمه في رعيته، فسمعت له وأطاعت. فلا سبيل له إلى زكاته إلا بعد طهارته كما قال تعالى: (قُلْ لِلمُؤْمِنِينَ يغُضُّوا مِنْ أبْصَارِهْمِ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أزْكَى لَهُمْ إنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يصْنَعُونَ) [النور: 30].

فجعل الزكاة بعد غض البصر وحفظ الفرج.

ولهذا كان غض البصر عن المحارم يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر، جليلة القدر:

إحداها: حلاوة الإيمان ولذته، التي هي أحلى وأطيب وألذ مما صرف بصره عنه وتركه لله تعالى فإن من ترك شيئا لله عوضه الله عز وجل خيرا منه، والنفس مولعة بحب النظر إلى الصور الجميلة، والعين رائد القلب. فيبعث رائده لنظر ما هناك، فإذا أخبره بحسن المنظور إليه وجماله، تحرك اشتياقا إليه، وكثيرا ما يتعب ويتعب رسوله ورائده كما قيل: وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا لِقلبكَ يَوْماً أتْعَبَتْكَ المنَاظِرُ رَأَيْتَ الذي لا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌِ عَلَيْه وَلا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابرُ فإذا كف الرائد عن الكشف والمطالعة استراح القلب من كلفة الطلب والإرادة، فمن أطلق لحظاته دامت حسراته، فإن النظر يولد المحبة. فتبدأ علاقة يتعلق بها القلب بالمنظور إليه. ثم تقوى فتصير صبابة. ينصب إليه القلب بكليته. ثم تقوى فتصير غراما يلزم القلب، كلزوم الغريم الذي لا يفارق غريمه. ثم يقوى فيصير عشقا. وهو الحب المفرط. ثم يقوى فيصير شغفا. وهو الحب الذي قد وصل إلى شَغاف القلب وداخله. ثم يقوى فيصير تتيماً. والتتيم التعبد ومنه تيمه الحب إذا عَبَّده. وتيم الله عبد الله. فيصير القلب عبدا لمن لا يصلح أن يكون هو عبدا له. وهذا كله جناية النظر فحينئذ يقع القلب في الأسر. فيصير أسيرا بعد أن كان ملكا، ومسجونا بعد أن كان مطلقا. يتظلم من الطرْف ويشكوه. والطرْف يقول: أنا رائدك ورسولك، وأنت بعثتنى. وهذا إنما ابتُلى به القلوب الفارغة من حب الله والإخلاص له، فإن القلب لا بد له من التعلق بمحبوب. فمن لم يكن الله وحده محبوبه وإلهه ومعبوده فلا بد أن ينعقد قلبه لغيره. قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ) [يوسف: 24]. فامرأة العزيز لما كانت مشركة وقعت فيما وقعت فيه، مع كونها ذات زوج، ويوسف عليه السلام لما كان مخلصا لله تعالى نجا من ذلك مع كونه شابا عزَبا غريبا مملوكا.

الفائدة الثانية في غض البصر: نور القلب وصحة الفراسة. قال أبو شجاع الكرمانى: "من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وكف نفسه عن الشهوات، وغض بصره عن المحارم، واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة" وقد ذكر الله سبحانه قصة قوم لوط وما ابتلوا به، ثم قال بعد ذلك: (إِنَّ في ذلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) [الحجر: 75]. وهم المتفرسون الذين سلموا من النظر المحرم والفاحشة، وقال تعالى عقيب أمره للمؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم:(اللهُ نُورُ السَّمواتِ وَالأرْضِ) [النور: 35].

وسر هذا الخبر: أن الجزاء من جنس العمل. فمن غض بصره عما حرم الله عز وجل عليه عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه، فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله تعالى، وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه. فإن القلب كالمرآة، والهوى كالصدأ فيها. فإذا خلصت المرآة من الصدأ انطبعت فيها صورة الحقائق كما هي عليه. وإذا صدئت لم ينطبع فيها صورة المعلومات. فيكون علمه وكلامه من باب الخرص والظنون.

الفائدة الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته، فيعطيه الله تعالى بقوته سلطان النصرة، كما أعطاه بنوره سلطان الحجة، فيجمع له بين السلطانين، ويهرب الشيطان منه، كما في الأثر: "إنَّ الذي يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرَقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ".ولهذا يوجد في المتبع هواه من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه، فإنه سبحانه جعل العز لمن أطاعه والذل لمن عصاه. قال تعالى:(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون: 8] وقال تعالى: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139] وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُريِدُ الْعِزَّةَ فَللَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر: 10]. أي من كان يطلب العزة فليطلبها بطاعة الله: بالكلم الطيب، والعمل الصالح، وقال بعض السلف: "الناس يطلبون العز بأبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله" وقال الحسن: "وإن هَمْلَجَتْ بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال إن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله عز وجل إلا أن يُذِلَّ من عصاه، وذلك أن من أطاع الله تعالى فقد والاه، ولا يذل من والاه الله، كما في دعاء القنوت: "إِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ".

والمقصود: أن زكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة، قال تعالى: {وَلوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21].

وذكر ذلك سبحانه عقيب تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية، فدل على أن التزكى هو باجتناب ذلك.

وكذلك قوله تعالى في الاستئذان على أهل البيوت: (وَإنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) [النور: 28].

فإنهم إذا أمروا بالرجوع لئلا يطلعوا على عورة لم يحب صاحب المنزل أن يطَّلع عليها كان ذلك أزكى لهم، كما أن رد البصر وغضه أزكى لصاحبه، وقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى: 14- 15]. وقال تعالى عن موسى عليه السلام في خطابه لفرعون: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) [النازعات: 18] وقال تعالى: (وَوَيلٌ لِلْمُشْرِكِينَ *الّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت: 6- 7].

قال أكثر المفسرين من السلف ومن بعدهم: هي التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان الذي به يزكو القلب، فإنه يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب، وذلك طهارته، وإثبات إلهيته سبحانه؛ وهو أصل كل زكاة ونماء، فإن التزكي- وإن كان أصله النماء والزيادة والبركة- فإنما يحصل بإزالة الشر. فلهذا صار التزكي ينتظم الأمرين جمعياً. فأصل ما تزكو به القلوب والأرواح هو التوحيد: والتزكية جعل الشيء زكيا، إما في ذاته، وإما في الاعتقاد والخبر عنه، كما يقال: عدَّلته وفسَّقته، إذا جعلته كذلك في الخارج، أو في الاعتقاد والخبر. وعلى هذا فقوله تعالى:(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) [النجم: 32] هو على غير معنى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) [الشمس: 9].

أي لا تخبروا بزكاتها وتقولوا: نحن زاكون صالحون متقون، ولهذا قال عقيب ذلك: (هُوَ أَعْلُم بِمَنِ اتَّقَى) [النجم: 32]. وكان اسم "زينب" "برة" فقال: "تُزَكِّى نَفْسهَا؟" فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم "زينب" وقال: "الله أَعْلمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ مِنْكُمْ" وكذلك قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلى الّذِينَ يُزَكُّونَ أنْفُسَهُم) [النساء: 49] أي يعتقدون زكاءها ويخبرون به، كما يزكى المزكي الشاهد، فيقول عن نفسه ما يقول المزكى فيه، كما قال الله تعالى: (بَلِ اللهُ يُزَكِّى مَنْ يَشَاءُ)[النساء: 49] أي هو الذي يجعله زاكيا، ويخبر بطاعة الله فيصير زاكياً، وهذا بخلاف قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) [الشمس: 9] فإنه من باب قوله: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) [النازعات: 18] أي تعمل بطاعة الله تعالى، فتصير زاكيا، ومثله قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) [الأعلى: 14].

وقد اختلف في الضمير المرفوع في قوله: زكاها فقيل: هو الله أي أفلحت نفس زكاها الله عز وجل، وخابت نفس دساها، وقيل: إن الضمير يعود على فاعل أفلح، وهو "مَن" سواء كانت موصولة أو موصوفة، فإن الضمير لو عاد على الله سبحانه لقال: قد أفلح من زكاه وقد خاب من دساه. والأولون يقولون "من" وإن كان لفظها مذكرا فإذا وقعت على مؤنث جاز إعادة الضمير عليها بلفظ المؤنث، مراعاة للمعنى، وبلفظ المذكر مراعاة للفظ، وكلاهما من الكلام الفصيح، وقد وقع في القرآن اعتبار لفظها ومعناها، فالأول كقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) [الأنعام: 25] فأفرد الضمير، والثاني كقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) [يونس: 42]. قال المرجحون للقول الأول: يدل على صحة قولنا: ما رواه أهل السنن من حديث ابن أبى مليكة عن عائشة رضى الله عنها قالت: أتيْتُ لَيْلَةً، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ يقُولُ: "رَبِّ أَعْطِ نَفْسِى تَقْوَاهَا، وزَكِّهَا، أنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا" فهذا الدعاء كالتفسير لهذه الآية، وأن الله تعالى هو الذي يزكى النفوس فتصير زاكية، فالله هو المزكي، والعبد هو المتزكي.

والفرق بينهما فرق ما بين الفاعل والمطاوع. قالوا: والذي جاء في القرآن من إضافة الزكاة إلى العبد إنما هو بالمعنى الثاني، دون الأول كقوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) [الأعلى: 14]، وقوله: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) [النازعات: 18] أي تقبل تزكية الله تعالى لك، فتتزكى؟ قالوا: وهذا هو الحق فإنه لا يفلح إلا من زكاه الله تعالى. قالوا: وهذا اختيار ترجمان القرآن ابن عباس، فإنه قال في رواية على بن أبى طلحة وعطاء والكلبى: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى الله تَعَالَى نَفْسَه" وقال ابن زيد: "قَدْ أَفلَحَ مَنْ زَكَّى الله تعالى نَفْسَهُ". واختاره ابن جرير. قالوا: ويشهد لهذا القول أيضا قوله في أول السورة: (فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [الشمس: 8]. قالوا: وأيضا فإنه سبحانه وتعالى أخبر أنه خالق النفس وصفاتها. وذلك في معنى التسوية.