كتاب الكبائر للشيخ محمد بن عبدالوهاب 10-02-1439هـ


باب ذكر مودة أعداء الله (1)

(1) أي: بأنها لا تجوز؛ مودة الكفار لا تجوز، يعني: محبتهم لا تجوز محبة الكفار هذا هو الموالاة، يعني: لا تجوز موالاتهم، يعني لا تجوز محبتهم؛ بل يجب بغضهم؛ لأن الله يبغضهم ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة: 22] بعض الصحابة قتل أباه لما كان على الكفر، وكان يحاول ابنه أن يكفر، ودارت المعركة، فقتل أباه كافراً والعياذ بالله؛ فأنزل الله هذه الآية ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [المجادلة: 22].

﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة: 22] (2)

(2) هذه الآية نزلت في أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - لما قتل أباه يوم بدر؛ لأن أباه حاول قتله، ويتابعه ليقتله، فقتله في المعركة – رضي الله عنه.

وقوله: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24] (3)

(3) ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ﴾ يعني: قبيلتكم ﴿وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ فهذه الثمانية يحبها الإنسان بطبعه محبة طبيعية، ولا لوم عليه في ذلك، إلا إذا قدم محبتها على محبة الله برسوله، حينئذ يحكم عليه بمودة الكفار؛ إذا قدم هذه المحاب الثمانية على محبة الله ورسوله، فلم يهاجر في سبيل الله، ولم يقاتل في سبيل الله، وآثر محبة هذا الأشياء على محبة الله ورسوله قال الله – جل وعلا: ﴿فَتَرَبَّصُوا﴾ يعني: انتظروا ماذا يحل بكم ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ الخاتمة ماذا تكون؟ كانت الخاتمة أن الله نصر المسلمين على الكافرين وهاجروا، والمهاجرون تركوا بيوتهم، وتركوا أموالهم، وتركوا آباءهم وأبناءهم، وهاجروا في سبيل لله – عز وجل – طاعة لله ولرسوله، تركوا الآباء والأمهات والأبناء والبنات والأوطان وهاجروا إلى الحبشة أولاً – الهجرة الأولى – ثم هاجروا إلى المدينة؛ هاجروا – رضي الله عنهم – الهجرتين إلى الله ورسوله.

وقوله: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ [هود: 113] (4)

(4) أي: لا تميلوا إلى الكفار، والركون هو الميل وإن قل، لا تميلوا إلى الكفار ولكن ميلوا إلى المؤمنين، لا تميلوا إلى الكفار ولو كانوا أقرب الناس إليكم ولكن ميلوا إلى المؤمنين، وكونوا مع المؤمنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119] كونوا معهم في الإيمان وفي الهجرة وفي السكن وفي جميع شؤون الحياة؛ لأنهم إخوانكم في الدين، وأقدم من الأخوة في النسب؛ الإخوان في الدين أقرب وأقوم من الإخوان في النسب.

وقال أبو العالية: "لا ترضوا بأعمالهم." (5)

(5) بل، تكرهوها وابتعدوا عنها.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "لا تميلوا إليهم كل الميل في المحبة ولين الكلام والمودة." (6)

(6) نعم. كل الأقوال في الآية متقاربة لا تنافي بينها.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "المرء مع من أحب" أخرجاه. (7)

(7) جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال له: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: "ماذا أعددت لها؟" قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله. قال: "أنت مع من أحببت."

باب ذكر قسوة القلب (8)

(8) قصوة القلب بمعنى أن القلب لا يتأثر بالقرآن ولا بالموعظة، هذا هو القلب القاسي ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: 74] القلب يقسو حتى يكون أقسى من الحجر، الحجارة تلين لذكر الله، قال تعالى ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 74] فالحجارة تلين لذكر الله وتحبط من خشية الله، وأما قلوب بني آدم بعضها أقسى من الحجارة - والعياذ بالله – لا يلين، ولا يتذكر، ولا يخاف، أقسى من الحجارة ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾.

وقول الله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ [المائدة: 13] الآية، (9)

(9) يعني: اليهود نقضوا الميثاق مع أنبيائهم، وخانوا العهد الذي عاهدوا عليه، فالله عاقبهم بقسوة القلوب؛ ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ (ما) هذه صلة للتوكيد والأصل هو: (فبنقضهم ميثاقهم) جاءت ب(ما) مؤكدة زيدت للتأكيد؛ ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ﴾ لعنهم الله بسبب نقضهم الميثاق، واللعن هو: الطرد عن رحمة الله – عز وجل - ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ هذه المشكلة أن قلوبهم قاسية ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ إذا قست القلوب صار الإنسان يتكلم في آيات الله بغير علم ويحرف الآيات والنصوص لتأتي على هواه، يحرفها عن معناه لتوافق هواه، ويفسرون القرآن بغير تفسيره ليتوافق مع هواهم – والعياذ بالله.

وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 23] (10)

(10) يعني: القرآن؛ لأنه حديث الله وكلامه؛ ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ عقوبة لهم ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾ القرآن ﴿عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ يفسرونه بغير تفسيره ليتوافق مع أهوائهم.

وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [الحديد: 16] الآية. (11)

(11) أي: ألم يحن الوقت الذي فيه تلين قلوب المؤمنين ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ عاتب الله المؤمنين لما تأخر ذلك في قلوبهم ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ والعياذ بالله؛ الذي لا لا يلين قلبه مع القرآن ومع ذكر الله – عز وجل – يبتلى بقسوة القلب، فلا يؤثر فيه القرآن، ولا فيه الذكر.

عن ابن عمرو مرفوعا: "ارحموا ترحموا، (12) واغفروا يغفر لكم. (13) ويل لأقماع القول، (14) ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون." (15) رواه أحمد.

(12) ارحموا عباد الله، واحنو عليهم، ولينوا لهم من المؤمنين ارحموهم يرحمكم الله، وفي الحديث الآخر: "ارحموا من في الله يرحمكم من في السماء." وهو الله – سبحانه وتعالى – فالجزاء من جنس العمل؛ فذا رحمت الضعفاء والمسكين من المؤمنين، وأشفقت عليهم، رحمك الله – عز وجل؛ لأن الجزاء من جنس العمل، "الراحمون يرحمهم الرحمن."

(13) والغفر هو الستر، فاستروا ما تواجهون مما تكرهون من الناس، استروه ولا تنشروه يغفر لكم الله – عز وجل.

(14) يعني: المعرضون والمتكبرون.

(15) المصرين: المستمرين على الكفر والذنوب والمعاصي ولم يتوبوا؛ هذه هو الإصرار؛ ولذا يقال: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبير مع الاستغفار، الله يغفروا الذنوب الكبائر مع الاستغفار، ومع الإصرار تصير الصغيرة كبيرة – والعياذ بالله – لا صغيرة مع الإصرار!

وللترمذي عنه مرفوعاً: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله؛ فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد القلوب من الله القلب القاسي." (16)

(16) لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، أما ذكر الله أكثروا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ۝ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِي﴾ [الأحزاب: 41-42] الكلام الذي ما له حاجة ثرثرة، أمسك لسانك عن الكلام الذي لا داعي له، ويكون الإنسان حذاراً، ولا يكون كثير الكلام الذي لا فائدة فيه؛ تكلم بقدر الحاجة، كما يمسك ماله عن التبذير والإسراف كذلك يمسك لسانه وكلامه عن الحذر والكلام الذي لا فائدة فيه.

ولهما عن جرير رضي الله عنه مرفوعا: "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله" أخرجاه. (17)

(17) نعم. الجزاء من جنس العمل: من لا يَرحم لا يُرحم. ارحم الناس الضعفاء والمساكين والفقراء والأيتام، ارحمهم واعطف عليهم يرحمك الله – سبحانه وتعالى.

(باب ذكر ضعف القلب)

وقول الله تعالى: ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [الكهف: 14] الآية، (18)

(18) يعني: أن الله قسى قلوبهم – والعاذ بالله – فصارت لا تستفيد من المواعظ والذكر، ولا تخشى لذكر الله، ولا تلين بذكر الله، هذه قسوة القلب، هذا القرآن لو أنزله الله على جبل رأيته خاشياً متصدعاً لخشية الله، فصار الجبل ألين بذكر الله من قلب ابن آدم، هذه المضغة اللحمة صارت أقسى من الجبل – نسأل الله العافية؛ وذلك بسبب لإعراض عن ذكر الله، عدم الاستماع له، وعدم تدبر القرآن، وعدم التأثر بالمواعظ.

وقوله تعالى: ﴿الم ۝ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ (19) (20)

(19) هذه سورة العنكبوت، بدأها بقوله: ﴿الم﴾ هذه حروف مقطعة: ألف – لام – ميم – ابتدأ الله بها بعض السور، وهو أعلم – سبحانه وتعالى بمعانيها، وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذه الحروف المقطعة في أوائل السور فيها إشارة إلى إعجاز القرآن؛ لأنه مؤلف من هذه الحروف التي تنطقون بها وتتكلمون بها ومع هذه تعجزون أن تأتوا بآية أو بسورة مثل القرآن وأنتم تنطقون بهذه الحروف، القرآن مركب من هذه الحروف وأنتم تعجزون أن تأتوا بمثل هذا القرآن، فدل على أنه من عند الله – عز وجل – وليس هو من كلام البشر ولا من كلام محمد.

(20) ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا﴾ أي: ما يبتلون وما يمتحون ﴿أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ فإذا قالوا: آمنا فلا بد أن يمتحنوا حتى يثبتوا على هذا الإيمان ويصدقوا في هذا الإيمان؛ امتحنهم الله ويبتليهم، يبتلي المؤمنين ليتبين صدقهم في الإيمان؛ هناك منافق يقول: آمنت، يقوله بلسانه بدون قلبه ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ۝ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: 8-9] يخادعون الله – عز وجل – والمنافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر والإعراض عن طاعة الله – عز وجل – فليس العبرة بقول اللسان ولكن العبرة بقول اللسان مع القلب ﴿أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ أي لا يختبرون ويبتلون حتى يظهر صدقهم في قولهم (آمنا) المنافق يقول آمنت ولكن إذا جاءت الابتلاء تبين نفاقه وكفره وكذبه.

﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 3] (21)

(21) ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من الأمم، امتحنهم الله – عز وجل – هذه سنة الله – عز وجل – أنه يبتلي عباده؛ ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ هذه النتيجة، بعد الامتحان يعلمن الله وهو الظهور، وهو يعلم -سبحانه وتعالى – لكن العلم على قسمين: العلم بالخفيات وعلم الظهور؛ ليظهر هذا للناس؛ فهذا علم الظهور، ويعلمهم من قبل، ولكنه لا يعذب الناس على علمه أنهم يعملون كذا، إنما يعذب الناس إذا فعلوا الكفر والمعاصي وظهر هذا؛ فإن الله يعذبهم.

وقوله: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ﴾ [المائدة: 22] الآية. (22) (23)

(22) نعم. موسى – عليه السلام – قال لبني إسرائيل ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ﴾ يعني: فلسطين، بيت المقدس؛ لأنه استولى عليه المجوس، استولى عليه العماليق، قوم غلاظ كبار الأجسام، جيل من الناس لهم خلق مختلف عن خلق بقية بني آدم، كبار الأجسام غلاظ القلوب؛ موس – عليه السلام – أراد أن يغزو هؤلاء في بيت المقدس ليخرجهم منه ويقاتلهم، فقال لبني إسرائيل: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ الله كتبها للمؤمنين ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: 105] الله كتب هذه البلاد للمؤمنين: فلسطين، بيت المقدس، الشام، للمؤمنين، كتبها الله للمؤمنين إذا جاهدوا في سبيل الله وقاموا بنصرة دين الله، أما إذا تخاذلوا وتراجعوا فإن الله يحرمهم منه؛ ما هو ميراث، وإنما هو لمن آمن بالله واليوم الآخر؛ ففلسطين ليست لليهود وليست لغيرهم، إنما هي للمؤمنين في الأصل إذا صدقوا مع الله – عز وجل – وآمنوا بالله ورسوله؛ ما هي دعوى بأنها وطن وأنها بلدهم؛ لا، البلد لله يرثها لمن يشاء - سبحانه وتعالى – لكنها بلاد المؤمنين وليست بلاد غير المؤمنين.

(23) ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ﴾ وهو العماليق كبار الأجسام وغلاظ الطباع، وهؤلاء جبناء ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ۝ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾ وهو العماليق ﴿وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا﴾ شف الجبن، يبونهم يخرجون منها بدون شيء وبدون قتال ﴿فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ سبحان الله يخرجون بدون جهاد وبدون؟ هذا جبن وخور وضعف -  والعياذ بالله - ﴿فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ كلام عجيب! يخرجون منها بدون جهاد ويسلمونها لكم؟ لا، لا بد من جهاد.     

وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ [العنكبوت: 10] الآية. (24)

(24) ومن الناس من يقول: آمنا بالله وإذا ابتلي وامتحن فإنه ينكس على عقبيه ﴿فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ ترك دينه لينجو من فتنة الناس، ترك دينه لينجو من أذى الناس، وينسى عذاب الله، وعذاب الله أشد من عذاب الناس، كما يقال: كالمستجير من الرمضاء إلى النار – والعياذ بالله - ﴿فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ فترك دينه لينجو من عذاب الناس وينسى عذاب الله الذي هو أكبر.

ولهما عن ابن عمرو مرفوعا: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، (25) والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه". (26) (27)

(25) نعم. هذا من خصال الإسلام وليس هو الإسلام كله؛ هذا من خصال الإسلام ومن أخلاق الإسلام؛ "من سلم المسلمون من لسانه" أمسك لسانه؛ فلم يتكلم في الناس بالغيبة والنميمة، والشتم والسباب، وغير ذلك من أنواع الفحش بالقول؛ أمسك لسانه عن أذى الناس، وتكلم بالكلام الطيب، والكلام المفيد؛ وسلم المسلمين من يده؛ فلم يبطش، ولم يقتل المسلمين ولم يؤذيهم.

(26) والهجرة هي الترك، قال تعالى ﴿والرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ أي: أن يترك الأصنام، والهجرة هي الترك؛ هذا في اللغة، وفي الشرع: الهجرة هي ترك بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام؛ الهجرة في الإسلام هي الانتقال من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام فراراً بالدين، هذه هي الهجرة الشرعية فراراً بالدين أن يفتنه الكفار؛ المهاجرون خرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً فعوضهم الله خير مما تركوا.

(27) "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" من الكفر والمعاصي والسيئات، تركها؛ هجرها، أي: تركها، وانتقل إلى ما يرضي الله – سبحانه وتعالى – من القول والعمل؛ والهجرة على قسمين: هجرة إلى كتاب الله وسنة رسوله وترك الأقوال الباطلة والأقوال المنكرة، وهجرة للبدن من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام فراراً بالدين؛ هذه هي الهجرة على قسمين: هجرة بالقلب وهجرة بالانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه."