فتح المجيد شرح كتاب التوحيد 27-10-1434هـ




متن الدرس

قال المصنف رحمه الله: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

قال الشارح رحمه الله: قال العماد ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم (قُلْ) لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله، وحرموا ما رزقهم الله (تَعَالَوْا) أي هلموا وأقبلوا (أَتْلُ) أقص عليكم (مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) حقاً، لا تخرصاً ولا ظناً، بل وحياً منه وأمراً من عنده، (أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) وكأن في الكلام محذوفاً دل عليه السياق تقديره: وصاكم ألا تشركوا به شيئاً، ولهذا قال في آخر الآية (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) انتهى.

قلت: فيكون المعنى: حرم عليكم ما وصاكم بتركه من الإشراك به.

وفي المغني لابن هشام في قوله تعالى: (أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) سبعة أقوال، أحسنها: هذا الذي ذكره ابن كثير، ويليه: بين لكم ذلك لئلا تشركوا، فحذفت الجملة من أحدهما، وهى (وَصَّاكُمْ) وحرف الجر وما قبله من الأخرى.

ولهذا إذا سئلوا عما يقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم كما قال أبو سفيان، لهرقل وهذا هو الذي فهمه أبو سفيان وغيره من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم قولوا لا اله إلا الله تفلحوا.

وقوله: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) قال القرطبي: الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما، وإزالة الرق عنهما، وترك السلطنة عليهما، و(إِحْسَاناً) نصب على المصدرية، وناصبه فعل من لفظه تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحساناً.

وقوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) إلاملاق: الفقر، أي لا تئدوا بناتكم خشية العيلة والفقر، فإنى رازقكم وإياهم، وكان منهم من يفعل ذلك بالذكور خشية الفقر، ذكره القرطبي.

وفى الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله، أى الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" . قلت: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك". قلت: ثم أي؟ قال: "أن تزاني بحليلة جارك". ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً* إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)".

وقوله: (وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) قال ابن عطية: نهي عام عن جميع أنواع الفواحش، وهى المعاصي. و(ظَهَرَ) و(بَطَنَ) حالتان تستوفيان أقسام ما جلتا له من الأشياء. انتهى.

وقوله: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) في الصحيحين: عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" .

وقوله: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) قال ابن عطية: (ذَلِكُمْ) إشارة إلى هذه المحرمات والوصية الأمر المؤكد المقرر. وقوله (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لعل: للتعليل أي إن الله تعالى وصانا بهذه الوصايا لنعقلها عنه ونعمل بها، وفى تفسير الطبري الحنفي: ذكر أو لا (تَعْقِلُونَ) في (تَذَكَّرُونَ) ثم (تَتَّقُونَ) لأنهم إذا عقلوا تذكروا وخافوا واتقوا.

وقوله: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) قال ابن عطية: هذا نهى عام عن القرب الذي يعم وجوه التصرف وفيه سد الذريعة، ثم استثنى ما يحسن وهو السعي في نمائه.

قال مجاهد: التي هي أحسن، إشارة فيه، وفي قوله: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) قال مالك وغيره: هو الرشد وزوال السفه مع البلوغ، روى نحو هذا عن زيد بن أسلم والشعبي وربيعة وغيرهم.

وقوله: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) قال ابن كثير: يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) أي من اجتهاد بأداء الحق وأخذه، فإن أخطأ بعد استفراغ الوسع وبذل جهده فلا حرج عليه.

وقوله: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) هذا أمر بالعدل في القول والفعل على القريب والبعيد. قال الحنفي : العدل فى القول في حق الولي والعدو لا يتغير في الرضي والغضب بل يكون على الحق وإن كان ذا قربى فلا يميل إلى الحبيب والقريب: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) .

وقوله: (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا) قال ابن جرير: وبوصية الله تعالى التي وصاكم بها فأوفوا. وإيفاء ذلك بأن يطيعوه بما أمرهم به ونهاهم عنه. وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك هو الوفاء بعهد الله. وكذا قال غيره.

وقوله: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه .

وقوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) قال القرطبي: هذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم. فإنه نهي وأمر وحذر عن اتباع غير سبيله على ما بينته الأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف. و(أَنَ) في موضع نصب. أي أتلو أن هذا صراطي، عن الفراء والكسائي. ويجوز أن يكون خفضاً. أي وصاكم به وبأن هذا صراطي. قال: والصراط الطريق الذي هو دين الإسلام. (مُسْتَقِيماً) نصب على الحال ومعناه مستوياً قيماً لا اعوجاج فيه. فأمر بإتباع طريقه الذي طرقه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه ونهايته الجنة وتشعبت منه طرق، فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار.قال الله تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أي يميل. انتهى .

وروى الإمام أحمد  والنسائي والدارمي وابن أبي حاتم والحاكم - وصححه - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده، ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيماً"، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: "وهذه سبل ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)". وعن مجاهد: ولا تتبعوا السبل، قال: البدع والشهوات.