الشتاء وما فيه من النِّعم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قال الله سبحانه وتعالى:(يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار).

اللهُ سبحانهُ وتَعَالى جعلَ تعاقُبَ اللَّيلِ والنَّهارِ، وتعاقبَ الفُصُولِ، وتعاقُبَ الشُّهورِ، وتعاقُبَ الشِّتاءِ والصَّيفِ من آياتِهِ سُبحانهُ وتَعَالى التي يستدِلُّ بها أهلُ العُقولِ السَّليمةِ، وأهل الإيمان على عظيم قدرته سبحانه وتعالى.

كذلكَ يستدلُّ بها أهلُ الإيمانِ وأهلُ العقولِ على أنَّ الله سبحانه وتعالى قادرٌ على تغييرِ الأحوالِ، ويستدلُّ بها أيضًا أصحابُ الإيمانِ وأصحابُ العقُولِ على التَّذكُّرِ والاتِّعاظِ بهذا التَّغييرِ الكوني؛ لأجلِ أن يُغيِّروا ما بأنفُسِهِم، ويتُوبُوا إلى اللهِ سبحانه وتعالى، فاللهُ يُجرِي ما يُجرِي في الصَّيفِ من شدَّةِ الحرِّ وما يُجري في الشِّتاءِ من شدَّةِ البرد؛ لأجل أن يتَّعظَ العِبادُ ويتذكَّروا ما يكونُ في يومِ القيامةِ من الحرِّ الشَّديدِ، ما يكونُ فيها من الزَّمهريرِ والبردِ الشَّديدِ؛ فيتُوبُوا إلى اللهِ سبحانه وتعالى، فإنَّ هذا نموذجٌ ممَّا في الآخرةِ من الحرِّ والبردِ، كما أن الاعتدال فصل الاعتدال الخريف والربيع فيه تذكير بما في الجنة من الاعتدال، وما فيها من الراحة والنعيم السرور. فما يجرِي في هذه الدُّنيا لا يجري عبثًا، وإنَّما هو لحكمةٍ إلهيَّةٍ عظيمةٍ، فيتبصَّرُ المسلمُ المؤمنُ، أمَّا الكافرُ والمنافقُ فهذا لا تزيده هذه الآياتُ وهذه العبرُ ولا تنفعُه؛ لعدمِ إيمانه وعدمِ خوفِهِ من اللهِ سبحانَهُ وتَعَالى، ولهذا سمعتم قوله تعالى: (فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا). فمن لم يتَّعِظْ بهذه الأحداث وهذه الأمورِ وهذه التَّغيُّراتِ؛ فهذا سيتذكَّرُ يومَ القيامةِ حينَ لا تنفعُهُ الذِّكرى، أمَّا المؤمنُ فيتذكَّرُ في هذه الدنيا في وقتٍ ينفعه التَّذكُّرُ، فيتُوبُ إلى اللهِ سبحانه وتعالى، الحقيقة أن ما يجري من الحر والبرد وغير ذلك من التغيرات إنما هو مذكر للمؤمن، وواعظ للمؤمن، وخير له، وإن كان فيه مشقة عليه، أو ضرر عليه يسير، لكن فائدته أكبر، فإنه يتعظ ويتذكر، ويعرف ضعفه وحاجته إلى الله سبحانه وتعالى،  قد مرَّ بكم أيام من شدة البرد رأيتم ماذا حصل فيها، هذا ليس عبثا، وإنما هو تذكير لكم لتحاسبوا أنفسكم وترجعوا إلى الله سبحانه وتعالى الذي بيده الأمور، في أيام كانت الدنيا كلها ما عرفتم من شدة البرد والجليد الذي ضر الأشجار والنخيل ثم حوله الله سبحانه وتعالى إلى دفء وإلى راحة، هذا دليل على قدرة الله سبحانه، يجعل الكون كله باردا صقيعا، ويجعل الكون كله دافئا مريحًا، هذا بقدرته سبحانه وتعالى، (يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) ونحن كما تعلمون ما جرى من هذا البرد الشديد وما جرى من انحباس الأمطار، وموت الأشجار والنخيل والأعشاب والمراعي، انحباس المطر هذا آية من آيات الله سبحانه وتعالى يذكر بها عباده، (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد). (أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا) أي مالحا لا يطاق شربه، فهذا من تذكير الله لعباده سبحانه وتعالى، انحباس المطر وما يترتَّبُ عليه من المضارِّ العظيمةِ، كذلكم ما تشاهدون من غلاءِ الأسعارِ هذه كلُّها مذكراتٌ لعبادِ اللهِ الصَّالحينَ؛ ليتَّعِظُوا ويرجِعُوا إلى ربهم- سبحانَهُ وتَعَالى- وهو من رحمته بعباده. ( ولو بسط اللهُ الرِّزقَ لعباده لبغوا في الأرضِ ولكن ينزِّلُ بقدرٍ ما يشاءُ إنَّه بعباده خبيرٌ بصيرٌ).

فاللهُ جلَّ وعلا يقبضُ ويبسُطُ، ويُغني ويُفقِرُ، ويُصِحُّ ويُمرِضُ، وهذا لمصالحِ المؤمنين أن يعتبروا وأن يتَّعظُوا وأن يتذكَّروا وأن يتُوبُوا إلى ربهم، وأن يقبلوا على الله بالدُّعاءِ والتَّضرُّعِ، وهذا في صالحهم وفي منفعتهم، ولا ينتفع بهذا إلاَّ المؤمنُ، (سيذَّكرُ من يخْشَى). وأمَّا المعرِضُ والمنافقُ والكافرُ والمشركُ فهذا له شأنٌ آخرُ عند الله سبحانه وتعالى (ويتَجَنَّبُها الأشْقَى) الأشْقَى لا يتذكَّرُ ولا يتَّعظُ.

 

وجاء في الحديثِ: "أنَّ المؤمنَ يَرَى ذنبَهُ كالجبلِ يخشى أن ينقضَّ عليه، والمنافقُ يَرَى ذنبه كالذُّبابِ الذي وقَفَ على أنفِهِ ثمَّ طارَ".  والمنافقُ كالبعيرِ يعقلُهُ أهلُهُ ثمَّ يُطلقُونَهُ، فلا يدري لماذا عقلُوه، ولا لماذا أطلقُوه؛ لأنَّه ليس عنده إيمانٌ ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللَّه، فعلى المسلم علينا جميعًا أن نتوبَ إلى اللهِ، وأن نحاسبَ أنفسنا، أن نبدأ بأنفسنا وبأولادنا وبيوتنا، فنقيم شرع الله-سبحانه وتعالى-بأداء فرائضه، وتجنُّبِ محارمهِ.  النَّاس اليوم غشاهم ظلامٌ عظيمٌ، من جهة هذه المدنيَّةِ وهذه الحضارة التي يسمُّونها حضارة، وهي شرٌّ فأغفلتهم عن ذكر اللهِ، وكسَّلتهم عن طاعة اللهِ، وانخدعوا بها حتى ضيَّعوا أوامرَ اللهِ، إلاَّ من رحم الله سبحانه وتعالى.

والتَّوبةُ لها علاماتٌ، ليست التَّوبةُ باللِّسانِ فقط، التَّوبةُ تغييرٌ، تُغيِّرُ من نفسك، تغيِّرُ من أهل بيتك، من المعصيةِ إلى الطَّاعةِ، من الشَّرِّ إلى الخيرِ، تغييرٌ، أمَّا إذا لم يحصل تغييرٌ وإنَّما توبةٌ باللِّسانِ هذا لا ينفعُ صاحبَهُ، الذي يتوبُ إلى الله توبةً صادقةً يغيِّرُ من حاله السَّيِّئةِ إلى حاله الطَّيِّبةِ. (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).  هذا مربوط بنا، فإن غيَّرنا من السَّيئِ إلى الحسنِ، من المعصيةِ إلى الطَّاعةِ، من الشَّرِّ إلى الخيرِ؛ غيَّر اللهُ ما بنا من شِدَّةٍ ومن بُؤسٍ، ومن قحطٍ ومن غلاء أسعارٍ إلى آخره غيره بالخير؛ لأنَّ الجزاءَ من جنس العمل، أما إذا لم نغير بقينا على ما نحن عليه فما عند الله أشد ولا حول ولا قوة إلا بالله، هذا ونسل الله للجميع التوفيق بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، وإصلاح ما فسد من أنفسنا ومن أولادنا ومن أعمالنا ومن أحوالنا إنه قريب مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

صورة للمقال