فتح المجيد شرح كتاب التوحيد 24-03-1439هـ


التاريخ: 24/3/1439 هـ

من قول المؤلف: "قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾"

إلى قول المؤلف: "وفيه مسائل"

قال المؤلف:

"قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾" قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ هذه حالة المنافقين الذين كانوا يظهرون أنهم مع المؤمنين، وإذا صار للمؤمنين شيء من الابتلاء والامتحان انحازوا عنهم إلى أعدائهم؛ والله فضحهم في هذه السورة؛ فالمؤمن مع المؤمنين سواء انتصروا أو امتحنوا، ويصبر على ما أصابهم ولا ييأس من رحمة الله ومن نصر الله؛ فهذا شأن المنافق وهذا شأن المؤمن الصادق. "قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: يقول تعالى مخبرا عن صفات قوم من المكذبين الذين يدّعون الإيمان بألسنتهم، ولم يثبت في قلوبهم: أنهم إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا اعتقدوا أنها من نقمة الله بهم، فارتدوا عن الإسلام. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله"." فإذا أذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله وارتد عن دينه فصار كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولو ثبت على دينه ولم ييأس من رحمة الله لعاد إليه إيمانه ويقينه، وعلم أن الفتن لا تدوم وأن البلوى لا تستمر، وهذا شأن المؤمن.

"وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما أن لا يقول ذلك. بل يستمر على السيئات والكفر، فمن قال: آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه. والفتنة الابتلاء والاختبار، ليتبين الصادق من الكاذب، ومن لم يقل: آمنا. فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه. فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه وابتلي بما يؤلمه، ومن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة وحصل له ما يؤلمه، وكان هذا الألم أعظم وأدوم من ألم أتباعهم." المؤمن يبتلى في الدنيا ولكنه في الآخرة يفوز فوزا لا ينقطع؛ لأن  الآخرة دار الجزاء والدنيا دار عمل وابتلاء، والمؤمن يصبر على ما أصابه، كما لقمان لبنه: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ المؤمن إن كان صادقا ثبت على دينه وصبر على الابتلاء ومن ضعف إيمانه يرتد في أول فتنة، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ فالمؤمن لا بد أن يبتلى في الدنيا على حسب إيمانه فيصبر وينتظر الفرج، أما المنافق يتزعزع في دينه في أول الفتنة طلباً السلامة بزعمه وما ذهب إليه إنما هو الهلاك، ولو لم يبتلى المؤمنون في الدنيا لآمن الناس كلهم، ولكن الفتن والابتلاء هو الذي يميز الصادق من الكاذب والله حكيم عليم فيما يجريه في خلقه؛ والمؤمن يحسن الظن بالله ويصبر وتكون العاقبة له. "فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء ثم يصير في الألم الدائم" لا بد للمؤمن أن يبتلى ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ۝ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ وهذا بحكمة من الله "والإنسان لا بد أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه; وإن وافقهم حصل له العذاب تارة منهم وتارة من غيرهم، كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة لا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم، فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سلم منهم فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم." هكذا من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لا بد أن يناله ما يناله من الأذى بالقول أو العمل، وأن يصبر على هذا أهون عليه على ما في الآخرة، فيصبر على الألم القيل يزول ليتقي بذلك الألم الذي لا يزول وهو النار يوم القيامة.

"الحزم كل الحزم بما قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- لمعاوية رضي الله عنه: "من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا." طلب معاوية من عائشة وصية فكتبت هذه الوصية، وهي منهج يتمسك به المؤمن في كل مكان وزمان، والله يداول الأيام بين الناس تارة ينتصر المؤمنون وتارة ينتصر الكفار، والمؤمن يصبر ويعلم أن الإيمان لا بد من الابتلاء. "فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرم وصبر على عداوتهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما كانت للرسل وأتباعهم." الرسل صبروا على الامتحان والابتلاء وصبروا وواصلوا دعوتهن ولكم قدوة فيهم. "ثم أخبر تعالى عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة، وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له، وهي أذاهم ونيلهم إياه بالمكروه، وهو الألم الذي لا بد أن ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم، جعل ذلك في فراره منه وتركه السبب الذي يناله به: كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان." كما لقي الرسول من الأذى من كفار قريش وكذلك الصحابة بصبروا. "فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان، وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قرب." الألم ألمان: الألم من عذاب الله والألم من عذاب الناس فتصبر على ألم الدنيا تفادياً لألم الآخرة وتصبر على دينك وتتمسك به، كما صبر بلال على أذى كفار قريش؛ "وهذا لضعف بصيرته فر من ألم أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم، ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله، فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة عذاب الله، وغُبن كل الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار، وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال: إني كنت معكم، والله أعلم بما انطوى عليه صدره من النفاق". انتهى." المسلم يتمسك بدينه مهما ما كلفه ذلك ويصبر على دينه.   

"وفي الآية رد على المرجئة والكرامية. ووجهه: أنه لم ينفع هؤلاء قولهم: آمنا بالله. مع عدم صبرهم على أذى من عاداهم في الله، فلا ينفع القول والتصديق بدون العمل. فلا يصدق الإيمان الشرعي على الإنسان إلا باجتماع الثلاثة: التصديق بالقلب وعمله، والقول باللسان، والعمل بالأركان. وهذا قول أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا، والله سبحانه وتعالى أعلم." المرجئة لا يدخلون العمل في الإيمان يخرجون العمل عن مسمى الإيمان، سموا بمرجئة للأرجاء وهو التأخير؛ لأنهم أخروا العمل عن مسمى الإيمان؛ والكرامية هم أتباع محمد بن كرام قريب من مذهب المرجئة؛ ولا ينفع النطق باللسان دون الاعتقاد بالقلب، ولا ينفع القول الاعتقاد بلا عمل هذا مذهب المرجئة، وتعريف الإيمان الشرعي عند أهل السنة أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ والعمل عملان: عمل بالقلب وعمل بالجوارح ولا بد أن يجتمعان أيضاً؛  

"وفيه الخوف من مداهنة الخلق في الحق. والمعصوم من عصمه الله." المداهنة معناها: أنك تترك طاعة الله خوفاً من أذى الناس ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ والله عصم نبيه عن يداهن الكفار على دين الله؛ فهناك فيرق بين المداهنة والمداراة، فهي تجوز عند الضرورة قال تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ وهي أن تدفع الأذى بشيء لا يسخط الله (كما أجاب الشيخ عن السؤال عن ضوابطها)

"قوله: "عن أبي سعيد مرفوعا." إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله; إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره" إذا فاتك شيء لا تذم الناس وتقول هذا بقدر الله وقضائه؛ فتعلق العمل بالله، اعمل الأسباب ولا تحرص؛ لأنك تدري ماذا يكون النفع والخير فيه، ولا تجزع إذا فاتك، فربما يكون المنع عنه خير لك. "هذا الحديث رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي، وأعله بمحمد بن مروان السدي وقال: ضعيف. وفيه أيضا عطية العوفي: ذكره الذهبي في الضعفاء والمتروكين. ومعنى الحديث صحيح، وتمامه: "وإن الله بحكمته جعل الرَّوح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط." لأن السدي رجلان: رجل ثقة ورجل ضعيف، وهذا السدي الصغير وهو ضعيف، والعوفي ضعيف أيضاً.

"قوله: "إن من ضعف اليقين" الضعف بضم ويحرك، ضد القوة، ضعف ككرم ونصر، ضعفا، وضعفة، وضعافية، فهو ضعيف وضعوف وضعفان. والجمع: ضعاف وضعفاء وضعفة وضعفى، أو الضعَف - بالفتح- في الرأي وبالضم في البدن، فهي ضعيفة وضعوف. واليقين يراد به كمال الإيمان. قال ابن مسعود: "اليقين الإيمان كله، والصبر نصف الإيمان " رواه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعا: قال: ويدخل في ذلك تحقيق الإيمان بالقدر السابق، كما في حديث ابن عباس مرفوعا: "فإن استطعت أن تعمل بالرضى في اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا". وفي رواية " قلت: يا رسول الله كيف أصنع باليقين؟ قال: أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك."

"قوله: "أن ترضي الناس بسخط الله" أي تؤثر رضاهم على رضا الله،" هكذا من يبلغ رسلات الله، والعقيدة الصحية ولو قال الناس أن تكفر الناس وهذا مذهب الخوارج لا يهمك كلام الناس، أما إذا كنت على خطأ فتراجع ولو مدحوك، ولا تثبت وتصبر على خطأ ولو يمدحوك ويشجعوك، لا ضرك هذا "وذلك إذا لم يقم بقلبه من إعظام الله وإجلاله وهيبته، ما يمنعه من استجلاب رضا المخلوق بما يجلب له سخط خالقه وربه ومليكه الذي يتصرف في القلوب، ويفرج الكروب ويغفر الذنوب. وبهذا الاعتبار يدخل في نوع من الشرك؛ لأنه آثر رضا المخلوق على رضا الله، وتقرب إليه بما يسخط الله، ولا يسلم من هذا إلا من سلمه الله، ووفقه لمعرفته ومعرفة ما يجوز على الله من إثبات صفاته على ما يليق بجلاله، وتنزيهه تعالى عن كل ما ينافي كماله، ومعرفة توحيده من ربوبيته وإلهيته وبالله التوفيق." العقيد الصحيحة تعصمك من هذه الأخطار وهذا يستدعي منك أن تتعلم العقيدة الصحيحة لتتمسك بها وتسير عليها عقيدة أهل السنة والجماعة تدرسها وتعرفها.

"قوله: "وأن تحمدهم على رزق الله" أي على ما وصل إليك من أيديهم، بأن تضيفه إليهم وتحمدهم عليه. فإن المتفضل في الحقيقة هو الله وحده الذي قدره لك وأوصله إليك،" الناس إنما هم سبب والذي ساقه إليك وقدره لك هو الله فتحمد الله وتحسن إلى من أحسن إليك "وإذا أراد أمرا قيّض له أسبابا. ولا ينافي هذا حديث: "من لا يشكر الناس لا يشكر الله"؛ لأن شكرهم إنما هو بالدعاء لهم لكون الله ساقه على أيديهم فتدعو لهم أو تكافئهم; لحديث: "ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه." فإضافة الصنيعة إليهم لكونهم صاروا سببا في إيصال المعروف إليك، والذي قدره وساقه هو الله وحده." تشكره المحسن إليك وتكافئه ولكن الشكر المطلق لله – عز وجل.

"قوله: "وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله"؛ لأنه لم يقدر لك ما طلبته على أيديهم، فلو قدره لك لساقته المقادير إليك. فمن علم أن المتفرد بالعطاء والمنع هو الله وحده، وأنه هو الذي يرزق العبد بسبب وبلا سبب، ومن حيث لا يحتسب، لم يمدح مخلوقا على رزق ولم يذمه على منع، ويفوض أمره إلى الله، ويعتمد عليه في أمر دينه ودنياه." الإيمان بالقدر يريح الإنسان كثيرا فإن جاءه شيء يقول: هذا من قدر الله ويحمده، وإذا فاته شيء لا يسخط وعسى أن يكون في ذلك خير "وقد قرر النبي هذا المعنى بقوله في الحديث: " إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره ". كما قال تعالى: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾." الله هو المعطي والممسك.

قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته، ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقنا لا بوعده ولا برزقه؛ فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم، فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه منهم، وإما ضعف تصديقه بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة. فإنك إذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مئونتهم. وإرضاؤهم بما يسخطه إنما يكون خوفا منهم ورجاء لهم، وذلك من ضعف اليقين. وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم. فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما لم يقدّر كان ذلك من ضعف يقينك، فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك; ولكن من حمده الله ورسوله منهم فهو المحمود، ومن ذمه الله ورسوله منهم فهو المذموم. ولما قال بعض وفد بني تميم: "أي محمد أعطني؛ فإن حمدي زَيْن وذَمِّي شَين". قال النبي ﷺ "ذاك الله". ودل الحديث على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال من مسمى الإيمان". دليل زيادة الإيمان: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ و ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ و ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ الله أخبر أن الإيمان يزيد بالطاعة والتصديق بكتاب الله؛  وما الدليل على أن الإيمان ينقص؟ "من يرى منك منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" وفي رواية: "وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان." يدل على أن الإيمان ينقص حتى يكون كحبة خردل من الإيمان.

"قوله: "وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس". رواه ابن حبان في صحيحه". لأن القلوب بيد الله، فعلق قلبك بالله!

"هذا الحديث رواه ابن حبان بهذا اللفظ، ورواه الترمذي عن رجل من أهل المدينة قال: "كتب معاوية رضي الله عنه إلى عائشة - رضي الله عنها -: أن اكتبي لي كتابا توصيني فيه، ولا تكثري علي، فكتبت عائشة -رضي الله عنها- إلى معاوية: سلام عليك، أما بعد: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من التمس رضا الله بسخط الناس، كفاه الله مئونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس ". والسلام عليك. ورواه أبو نعيم في الحلية.

قوله: "من التمس" أي طلب.

قال شيخ الإسلام: " وكتبت عائشة إلى معاوية، وروي أنها رفعته: "من أرضى الله بسخط الناس، كفاه الله مئونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله، لم يغنوا عنه من الله شيئا". هذا لفظ المرفوع. ولفظ الموقوف: "من أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاما". وهذا من أعظم الفقه في الدين؛ فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، والله كاف عبده ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾. والله يكفيه مئونة الناس بلا ريب. وأما كون الناس كلهم يرضون عنه قد لا يحصل ذلك; لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض، وإذا تبين لهم العاقبة. "ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا" كالظالم الذي يعض على يديه. وأما كون حامده ينقلب ذاما، فهذا يقع كثيرا ويحصل في العاقبة. فإن العاقبة للتقوى لا تحصل ابتداء عند أهوائهم". اهـ.

"وقد أحسن من قال:

إذا صح منك الود يا غاية المنى ... فكل الذي فوق التراب تراب"

هذا المعنى لا يليق إلا بالله.

"قال ابن رجب -رحمه الله-: فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب، فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب؟ أم كيف يرضى التراب بسخط الملك الوهاب؟ إن هذا لشيء عجاب." كلهم من تراب؛ لأن اباهم آدم من تراب.

"وفي الحديث: عقوبة من خاف الناس وآثر رضاهم على الله، وأن العقوبة قد تكون في الدين، عياذاً بالله من ذلك. كما قال تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ﴾" وهذه أشد العقوبات: عقوبة القلب إذا أعمى الله قلب الإنسان، هذا أشد العقوبات.

 

الفوائد الحسان من دروس الفوزان.

فوائد درس شرح فتح المجيد، الثلاثاء، 24-3-1439هـ.

 

الفائدة الأولى: الله جل وعلا يبتلي المؤمنين، ولولا الابتلاء لآمن الناس كلهم، والله حكيم عليم على ما يجريه سبحانه وتعالى. قال تعالى: (ألم* أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يفتنون* ولقد فتنَّا الذين من قبلهم فليعلمنَّ الله الذين صدقوا وليعلمنَّ الكاذبين).

الفائدة الثانية: قال تعالى: (الذين قال لهم الناس إنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل* فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتَّبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم). فالمؤمن يحسن الظنَّ بالله ويصبر على ما أصابه تكون العاقبة له بإذن الله.

الفائدة الثالثة: بعض الناس يترك دينه ليحصل على شيء من ملذات الدنيا، وهذه الملذات لا تدوم، بل تعقبها حسرة دائمة في الدار الآخرة، ولقد جرى على الصحابة من الابتلاء والامتحان ما جرى، ولم يزحرح ذلك من إيمانهم، بل زادهم ذلك إيمانا بربهم، فالمؤمن لابد أن يبتلى.

الفائدة الرابعة: الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لا بد أن يناله من العصاة وأصحاب الشهوات ما يناله من الأذى إما من القول أو من الفعل، ولكن الأذى الذي يصيبه أهون من الأذى والألم الذي لا يزول وهو النار يوم القيامة.

الفائدة الخامسة: المؤمن يبتلى على قدر إيمانه، "إنَّ الله تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط". ولو كان الإيمان روضة مزهرة دائما لما كفر أحد، ولكن الله تعالى يجعل الأيام دولاً بين الناس ليتبين الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق.

الفائدة السادسة: الله جل وعلا يداول الأيام بين الناس: تارة ينتصر المؤمنون، وتارة ينتصر الكفار، والمؤمن يثبت على إيمانه حتى يأتيه نصر الله، فالإيمان لابد أن يحصل معه ما يحصل، ولا أحد يسلم من المضايقات في الدنيا.

الفائدة السابعة: الرسل عليهم الصلاة والسلام وهم أفضل الخلق جرى عليهم ما جرى من الشدائد والأذى من الكفار والمنافقين ولكن صبروا فكانت لهم العاقبة، فلكم قدوة في الرسل عليهم الصلاة والسلام، الرسول عليه الصلاة والسلام ماذا لقي من أذى كفار قريش في مكة؟ ضايقوه وحاربوه حتى ألقوا سلا الجزور على ظهره وهو ساجد عند الكعبة، لكنه صبر وواصل الدعوة ونصره الله وأظهر دينه وخذل الكفار، وهذه سنة الله في خلقه، يبتلي الإنسان في دينه فإن صبر كانت له العاقبة، وإن سخط خسر في الدنيا والآخرة.

الفائدة الثامنة: الألم ألمان: ألم من عذاب الله، وألم من عذاب الناس، فأنت تصبر على الألم الزائل من الناس تفاديا لألم وأذى الآخرة، تصبر على دينك وتتمسك به، والمسلم إذا لم يصبر على أذى الناس ووافقهم على ما يريدون فأمامه عذاب النار وهو أشد، فهو كالمستجير من الرمضاء بالنار.

الفائدة التاسعة: المنافق إذا حصل للمؤمنين نصر وتأييد ونعمة من الله سبحانه وتعالى قال أنا معكم، وإن حصل للمسلمين كرب ومضايقة انحاز للكفار طلبا للسلامة، والذي صار إليه هو الهلاك، وأما المؤمن فيصبر على دينه مهما كلفه ذلك.

الفائدة العاشرة: المداهنة معناها أن تترك طاعة الله خوفا من الناس، قال تعالى عن كفار قريش: (ودُّوا لوتدهن فيدهنون). فالمعنى: ودَّى الكفار أن محمدا صلى الله عليه وسلم يداهنهم فيداهنونه، والله سبحانه وتعالى عصم رسوله صلى الله عليه وسلم فلم يداهن الكفار، وأما المداراة فتجوز عند الضرورة، قال تعالى: (ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلاَّ أن تتقوا منهم تقاة). فالتقاة هي المداراة.

 

الفائدة الحادية عشرة: الحرص الشديد لا يفيد شيئا، اعمل الأسباب ولا تحرص؛ لأنك لا تدري ما الذي يكون فيه النفع والخير، فاعمل السبب فإن حصل ما تريد فالحمد لله، وإلاَّ فالخير فيما قدره الله، والمؤمن مرتاح؛ سواء حصل له ما يطلب أو لم يحصل؛ لأنه يثق بقضاء الله وقدره.

الفائدة الثانية عشرة: اليقين أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فالله هو الذي قدر أنه يخطئك ولو طلبته وبذلت وبذلت لم تحصل عليه إذا لم يقدره الله لك.

الفائدة الثالثة عشرة: قوله تعالى:( الذين يبلغون رسالات الله) أي: يبلغونها للناس، يبينون الحق، يبلغون الدين، يبينون العقيدة الصحيحة، ولا يخشون الناس في ذلك بل يخشون الله سبحانه وتعالى، لا تأخذهم في الله لومة لائم، أنت لما تبين العقيدة الصحيحة يقولون لك أنت تكفر الناس، أنت متشدد، أنت أنت، هذا مذهب الخوارج، لا يهمك هذا مادام أنك على حق، لا يهمك كلام الناس والمخذلين، أما إن كنت على خطأ فتراجع ولو مدحوك، لا تصبر على الخطأ وتثبت على الخطأ ولو مدحوك وشجعوك لا يغرك هذا.

الفائدة الرابعة عشرة: من ألتمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس؛ لأن القلوب بيد الله سبحانه وتعالى، فهو مقلب القلوب، ومن ألتمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، فالله جازاه بعكس ما يريد، فالقلوب بيد الله تعالى فعلق قلبك بالله.

 

 

تمت بحمد الله

 

الأسئلة المنتقاة من الدروس الملقاة لمعالي الشيخ صالح الفوزان.

أسئلة درس شرح فتح المجيد، الثلاثاء، 24-3-1439هـ.

 

السؤال الأول: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: هل هناك فرق بين الابتلاء والعقوبة؟

الجواب: لا، ما بينهما فرق، الابتلاء هو عقوبة.

السؤال الثاني: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: هل هناك درجات للصبر عند الابتلاء؟

الجواب: لا أعرف هذا، الصبر هو الصبر، حبس النفس، حبس اللسان، وحبس الجوارح عن معصية الله سبحانه وتعالى.

 

السؤال الثالث: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: قالت عائشة رضي الله عنها: "هو الرجل إذا أصابته مصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى، يقول ما معناه، وكيف يكون معناه والله عزوجل أخبرنا أن المصائب من عند أنفسنا؟

الجواب: من عند أنفسنا سبب، وأما الذي قدرها فهو الله، ما هو أنفسنا التي أوجدته، أوجدها الله بقضائه وقدره، لكن أنت سبب.

السؤال الرابع: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: ما الفرق بين المداهنة والمداراة؟

الجواب: المداهنة لا تجوز، أن ترضي الناس بسخط الله، هذه هي المداهنة. المداراة أنك تدفع الأذى بشيء لا يسخط الله عزوجل، الله جل وعلا قال: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلاَّ أن تتقوا منهم تقاة). هذه هي المداراة، أن تتقوا منهم تقاة.

السؤال الخامس: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: هل المداهنة من النفاق؟

الجواب: نعم تكون من النفاق.

السؤال السادس: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: هل من يشكر الناس على عطاياهم يدخل في قوله: "أن تحمد الناس على رزق الله"؟

الجواب: لا، يحمد الناس على قدر ما بذلوا، والشكر المطلق هو لله عزوجل، وإنما المخلوق يشكر على قدر ما بذل من المعروف، "من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تُرَوْا أن قد كافأتموه".

السؤال السابع: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: هل ذنوب الصغائر تحرم العبد من رزق الله؟

الجواب: نعم، قد تحرمه من رزق الله ولو هي صغائر.

السؤال الثامن: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: هل تسقط الحدود الشرعية لمصلحة راجحة كحد الردة؟

الجواب: الحدود ما تسقط، لابد من تنفيذها، إذا ثبتت على عبد من العباد لابد من تنفيذها، ينفذها ولي الأمر، سلطان المسلمين هو الذي ينفذها، لما توسط أسامة بن زيد رضي الله عنه عند الرسول في عدم قطع المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فعظم ذلك على بني مخزوم، وطلبوا من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة أن يتوسط؛ غضب النبي صلى الله عليه وسلم وعليه، وقال:" أتشفع في حد من حدود الله؟ وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". الحدود ما فيها مواربة إذا ثبتت عند السلطان، قال صلى الله عليه وسلم

"إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الشافع والمشفع".

السؤال التاسع: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: ما موقف المسلم من المنكرات العامة؟ وما هي الطريقة الشرعية لإنكارها؟

الجواب: كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا" من رأى، إذا رأيت المنكر، ما هو يقولون أو يقولون، لا، إذا رأيته أنت. "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده" وهذا لأصحاب السلطة، من عندهم سلطة كولي الأمر أو من نوبهم ولي الأمر من رجال الحسبة، يغيره بيده، "فإن لم يستطع" يعني ليس له سلطة "فبلسانه" بالوعظ والتذكير والنهي والبيان، فمن لم يستطع، ما عنده قدره على البيان "فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"

السؤال العاشر: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: أتعلم القرآن وعندي مصحف خاص أكتب عليه أحيانا وأجعل عليه علامات وخطوط على المتشابهات وغيرها، يقول هل يجوز لي ذلك؟

الجواب: لا، ما يجوز لك ذلك، تخلي المصحف ولا تكتب فيه شيئا، لا بين السطور ولا في الهوامش، تخلي المصحف من الكتابات، وإذا كنت تريد تقيد فوائد يكون معك دفتر تقيدها في دفترك ولا تقيدها في المصحف.

 

تمت بحمد الله.