العقيدة الطحاوية 10-02-1439هـ


من قول المؤلف: "والمقصود: أن الذي دل عليه الشرع والعقل.."

 

إلى قول المؤلف: "وقد وصف الله تعالى نفسه بأن له المثل الأعلى"

 

ملخص الدرس:

قال المؤلف: "وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ، أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ." دل الشرع من الكتب المنزلة والقرآن الكريم على وحدانية الله وتفرده بالملك لا شريك له، وكذلك العقل؛ لأن الله أخبر أنه خالق كل شيء وعلى كل شيء وكيل ولا ينازع الله في ادعاء الربوبية أحد، فدل هذا على تفرد الله في خلق هذا الكون وأنه هو الخالق،  قال الله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور: 35] فلا أحد أوجد نفسه، فدل ذلك على وجود من أوجده وهو الله؛ وأن كل حادث له محدث وهو الله؛ فدل تفرد الله بالخلق والربوبية على أنه هو المستحق للعادة وحده – هذ دليل عقلي شرعي قال الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 21-22]  "أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ." أي موجوداً بعد أن لم يكن شيئياً، وكما قال تعالى لزكريا: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ [مريم: 9].

"أَمَّا كَوْنُ الرَّبِّ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُعَطَّلًا عَنِ الْفِعْلِ ثُمَّ فَعَلَ، فَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعَقْلِ مَا يُثْبِتُهُ، بَلْ كِلَاهُمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ." فعل الله دائم إذا شاء لا يكون ليس بقادر على شيء في وقت ثم صار قادراً كما قاله أهل الكلام: أن الله عليه وقت لم يخلق ثم خلق؛ الله ما زال يخلق ويرزق بدون حد في الماضي والمستقبل؛ ليس كما يقول أهل الكلام، وقد عيبوا على ابن تيمية القول بحوادث لا أول لها – وهذا قول صحيح؛ وصفات الله ملازمة لذاته سبحانه؛ فإن الله كان خالقاً قبل أن يخلق ورازقاً قبل أن يرزق ولم يكون معطلاً في وقت ثم صار يخلق بعد ذلك في وقت لا في الماضي ولا في المستقبل؛ من الذي يحدد بداية أن يخلق ويرزق؟! لا أحد - هذا تحكم وقول على الله بلا علم. وهذ ما يسمى بالتسلسل في الماضي، ولا أحد يتنازع في التسلسل في المستقبل؛ والحق: أن الله ما زال يخلق ويرزق بلا تحديد، لا دليل عليه لا من الوحي ولا من العقل، بل العقل يدل على أسماء الله وصفاته وأفعاله لا بداية لها ولا نهاية بدون تحديد؛

"قَوْلُهُ: (لَيْسَ مُنْذُ خَلَقَ الْخَلْقَ اسْتَفَادَ اسْمَ الْخَالِقِ وَلَا بِإِحْدَاثِهِ الْبَرِيَّةَ اسْتَفَادَ اسْمَ الْبَارِي) ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَمْنَعُ تَسَلْسُلَ الْحَوَادِثِ فِي الْمَاضِي، وَيَأْتِي فِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَا شَكَّ فِي فَسَادِ قَوْلِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجَهْمُ وَأَتْبَاعُهُ، وَقَالَ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، لِمَا يَأْتِي مِنَ الْأَدِلَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى." الله هو الخالق دائماً وأبداً لا بداية لأسمائه وصفاته ولا نهاية كما لا بداية ولا نهاية لذاته.  وإذا جاز التسلسل في المستقبل جاز التسلسل في الماضي. والجهم بن صفوان هو الذي نسبت إليه الجهمية والذي اخترع هذا القول هو الجعد بن درهم شيخه؛ "وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا، مِنَ الْقَائِلِينَ بِحَوَادِثَ لَا آخِرَ لَهَا فَأَظْهَرُ فِي الصِّحَّةِ مِنْ قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا" إذا كانت هنالك حوادث لا آخر له فما المانع أن تكون هناك حوادث لا أول لها؛ فمن يحدد ذلك؟! "فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ حَيًّا، وَالْفِعْلُ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَزَلْ فَاعِلًا لِمَا يُرِيدُ، كَمَا وَصَفَ بِذَلِكَ نَفْسَهُ، حَيْثُ يَقُولُ: ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ۝ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [البروج: 15 - 16]" فمن يحدد متى صار فعالاً لما يريد؟! فدل ذلك على أنه فعال لما يريد في الماضي والمستقبل بلا حد. والآية تدل على:

  1. أن الله يفعل ما يريد.
  2. أنه لم يزل كذلك لا تحديد لأسمائه وصفاته وهذا من كمال صفات الله؛ فإن (الفعال) صيغة مبالغة صفة كمال بلا وقت محدد.
  3. (ما يريد) ما: اسم موصول من صيغة العموم فلا حد لأفعاله.
  4. أنه يفعل بإرادته فلا يفعل شيئا إلا بالإرادة، ولا يريد شيئاً إلا فعله (إرادة كونية قدرية).
  5. إن هناك إرادة العامة وإرادة مختصة للمراد.
  6. "أَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ إِرَادَتُهُ جَازَ فِعْلُهُ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْزِلَ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَنْ يَجِيءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَأَنْ يُرِيَ عِبَادَهُ نَفْسَهُ، وَأَنْ يَتَجَلَّى لَهُمْ كَيْفَ شَاءَ، وَيُخَاطِبَهُمْ، وَيَضْحَكَ إِلَيْهِمْ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُرِيدُ سُبْحَانَهُ - لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ. وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ ذَلِكَ عَلَى إِخْبَارِ الصَّادِقِ بِهِ، فَإِذَا أَخْبَرَ وَجَبَ التَّصْدِيقُ" أي خبر الرسول ﷺ "وَكَذَلِكَ مَحْوُ مَا يَشَاءُ، وَإِثْبَاتُ مَا يَشَاءُ، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى." أي في كل لحظة هو يرزق ويدبر.

"واختلف الناس في أول هذا العالم ما هو؟  وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ [هود: 7]" الماء: البحر المسجور الذي في السماء "عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: (قَالَ أَهْلُ الْيَمَنِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ، فَقَالَ: " كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ ) وَفِي رِوَايَةٍ: (وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مَعَهُ)، وَفِي رِوَايَةٍ (غَيْرُهُ)، (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، وَفِي لَفْظِ:  (ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.)" واللفظ: قبله هو الأصح كما جاء في حديث آخر: أنت الأول ليس قبلك شيء وأنت الآخر ليس بعدك شيء. والقول الصحيح في معناه: إخباره ﷺ عن مبدأ على العالم الموجود المشهود، وقد يخلق الله غير هذا العالم لا يعلمه إلا الله، وليس المراد: جنس المخلوقات "لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنْهُ، وَقَدْ أَخْبَرَهُمْ عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَالَ كَوْنِ عَرْشِهِ عَلَى الْمَاءِ، وَلَمْ يُخْبِرْهُمْ عَنْ خَلْقِ الْعَرْشِ، وَهُوَ مَخْلُوقٌ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ."

"قَوْلُهُ: (لَهُ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَلَا مَرْبُوبَ، وَمَعْنَى الْخَالِقِ وَلَا مَخْلُوقَ) يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ الرَّبُّ قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ مَرْبُوبٌ، وَمَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ خَالِقٌ قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ مَخْلُوقٌ." هل لا يسمى رباً إلا بعد أن خلق الخلق؟! فله الأسماء والصفات قبل ذلك. "قَوْلُهُ: (وَكَمَا أَنَّهُ مُحْيِي الْمَوْتَى بَعْدَ مَا أَحْيَا اسْتَحَقَّ هَذَا الِاسْمَ قَبْلَ إِحْيَائِهِمْ، كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْخَالِقِ قَبْلَ إِنْشَائِهِمْ) يَعْنِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ مُحْيِي الْمَوْتَى قَبْلَ إِحْيَائِهِمْ، فَكَذَلِكَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ خَالِقٌ قَبْلَ خَلْقِهِمْ.."

"قَوْلُهُ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ فَقِيرٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ عَلَيْهِ يَسِيرٌ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ قال الشارح: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى ثُبُوتِ صِفَاتِهِ فِي الْأَزَلِ قَبْلَ خَلْقِهِ."

لا يقال إن الله قادر على كل ما هو مقدور له هذا قول المعتزلة "وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَهُوَ مُنْدَرِجٌ فِي هَذَا. وَأَمَّا الْمُحَالُ لِذَاتِهِ، مِثْلُ كَوْنِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مَوْجُودًا مَعْدُومًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، فَهَذِهِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ، وَلَا يُسَمَّى شَيْئًا، بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: خَلْقُ مِثْلِ نَفْسِهِ، وَإِعْدَامُ نَفْسِهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَالِ". والمحال لا حقيقة له. والله على كل شيء قدير. "وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ الْإِيمَانُ بِرُبُوبِيَّتِهِ الْعَامَّةِ التَّامَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مَنْ آمَنَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، وَلَا يُؤْمِنُ بِتَمَامِ رُبُوبِيَّتِهِ وَكَمَالِهَا إِلَّا مَنْ آمَنَ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ." والسؤال هل المعدوم شيء؟ الصحيح: أن المعدوم ليس بشيء ولا حقيقة له.

"وَقَوْلُهُ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ رَدٌّ عَلَى الْمُشَبِّهَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا شَبِيهٌ. فَالْمَخْلُوقُ وَإِنْ كَانَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ - فَلَيْسَ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ كَسَمْعِ الرَّبِّ وَبَصَرِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ الصِّفَةِ تَشْبِيهٌ، إِذْ صِفَاتُ الْمَخْلُوقِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، وَصِفَاتُ الْخَالِقِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ." الأسماء والصفات وإن اشتركت في الاسم والمعنى اختلقت في الكيفية والحقيقة. "فَإِذَا شَبَّهْتَهُ بِخَلْقِهِ كُنْتَ كَافِرًا بِهِ. قَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ: مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَلَيْسَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا مَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ تَشْبِيهًا."