فتح المجيد شرح كتاب التوحيد 07-02-1435هـ



متن الدرس

قال : (ولهما في حديث عتبان فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) .

قوله : (ولهما) أي البخاري ومسلم في صحيحيهما بكماله . وهذا طرف من حديث طويل أخرجه الشيخان .

وعتبان بكسر المهملة بعدها مثناة فوقية ثم موحدة، ابن مالك بن عمرو بن العجلان الأنصاري، من بنى سالم بن عوف، صحابي مشهور، مات في خلافة معاوية .

وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن قتادة قال : حدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال: "يا معاذ"، قال : لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: "يا معاذ"، قال لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: "يا معاذ"، قال :لبيك يا رسول الله وسعديك - ثلاثاً - قال:"ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله تعالى على النار"، قال: يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال:"إذاً يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً" .وساق بسند آخر: "حدثنا معتمر قال : سمعت أبي ، قال : سمعت أنساً قال: ذكر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل:  "من لقى الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة". قال: ألا أبشر الناس؟ قال: "لا، إني أخاف أن يتكلوا" .

قلت : فتبين بهذا السياق معنى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأنها تتضمن ترك الشرك لمن قالها بصدق ويقين وإخلاص .

قال شيخ الإسلام وغيره: في هذا الحديث ونحوه أنها فيمن قالها ومات عليها ، كما جاءت مقيدة بقوله : خالصاً من قلبه غير شاك فيها بصدق ويقين  فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة، لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحاً ، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة" وتواترت بأن كثيراً ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم ، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليداً أو عادة، ولم تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه. وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء، كما فى الحديث "سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته" وغالب أعمال هؤلاء إنما هي تقليد واقتداء بأمثالهم ، وهم من أقرب الناس من قوله تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ).

وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصراً على ذنب أصلاً ، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذاً لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله. وهذا هو الذي يحرم على النار وإن كانت له ذنوب قبل ذلك ، فإن هذا الإيمان وهذا الإخلاص، وهذه التوبة وهذه المحبة وهذا اليقين، لا تترك له ذنباً إلا محي عنه كما يمحو الليل النهار، فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر، فهذا غير مصر على ذنب أصلاً، فيغفر له ويحرم على النار، وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة فيحرم على النار، ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه، وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته ومات مصراً على ذلك، فإنه يستوجب النار.

وإن قال لا إله إلا الله وخلص بها من الشرك الأكبر ولكنه لم يمت على ذلك ، بل أتى بعدها بسيئات رجحت على حسنة توحيده، فإنه في حال قولها كان مخلصاً لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك بخلاف المخلص المستيقن، فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته ولا يكون مصراً على سيئات ، فإن مات على ذلك دخل الجنة .

وإنما يخاف على المخلص أن يأتي بسيئة راجحة فيضعف إيمانه فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر، فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك فيرجح جانب السيئات فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف قول لا إله إلا الله ، فيمتنع الإخلاص بالقلب، فيصير المتكلم بها كالهاذى أو النائم، أو من يحسن صوته بالآية من القرآن من غير ذوق طعم وحلاوة، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل يأتون بعدها بسيئات تنقض ذلك بل يقولونها من غير يقين وصدق ويحيون على ذلك، ويموتون على ذلك، ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجنة. فإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غير الله، واطمأن إلى الباطل، واستحلى الرفث، ومخالطة أهل الغفلة، وكره مخالطة أهل الحق، فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدقه عمله.

قال الحسن:  ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه .

وقال بكر بن عبد الله المزني: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه .

فمن قال: لا إله إلا الله ولم يقم بموجبها بل اكتسب مع ذلك ذنوباً، وكان صادقاً في قولها موقناً بها، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، فرجحت هذه السيئات على هذه الحسنة، ومات مصراً على الذنوب، بخلاف من يقولها بيقين وصدق، فإنه إما أن لا يكون مصراً على سيئة أصلاً، ويكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته. والذين يدخلون النار ممن يقولها: إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافيين للسيئات أو لرجحانها ، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم ، ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام ، لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوي على محو السيئات فترجح سيئاتهم على حسناتهم. انتهى ملخصاً.

وقد ذكر هذا كثير من العلماء كابن القيم و ابن رجب وغيرهم.

قلت: وبما قرره شيخ الإسلام تجتمع الأحاديث.

قال: وفي الحديث دليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد وبالعكس، وفي تحريم النار على أهل التوحيد الكامل وفيه إن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصاً لوجه الله تعالى على ما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .

(تنبيه) قال القرطبي في تذكرته: قوله في الحديث من إيمان أي من أعمال الإيمان التي هي من أعمال الجوارح، فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من الإيمان، والدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلناه، ولم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد ونفي الشركاء والإخلاص بقول لا إله إلا الله ما في الحديث نفسه من قوله أخرجوا- ثم بعد ذلك يقبض سبحانه قبضة فيخرج قوماً لم يعملوا خيراً قط يريد بذلك التوحيد المجرد من الأعمال ا هـ ملخصاً من شرح سنن ابن ماجة .

قال المصنف رحمه الله: وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال موسى عليه السلام :" يا رب علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به، قال  قل يا موسى لا إله إلا الله . قال : كل عبادك يقولون هذا ، قال : يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله" رواه ابن حبان والحاكم وصححه.

أبو سعيد: اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري الخزرجي ، صحابي جليل وأبوه كذلك، استصغر أبو سعيد بأحد وشهد ما بعدها، مات: بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل: سنة أربع وسبعين .

قوله: "أذكرك" أي أثني عليك به. "وأدعوك"أي أسألك به .

قوله: "قل يا موسى لا إله إلا الله" فيه أن الذاكر بها يقولها كلها، ولا يقتصر على لفظ الجلالة، ولا على هو كما يفعله غلاة جهال المتصوفة، فإن ذلك بدعة وضلال .

قوله: "كل عبادك يقولون هذا" ثبت بخط المصنف بالجمع، والذي في الأصول يقول بالإفراد مراعاة للفظة كل وهو في المسند من حديث عبد الله بن عمر بلفظ الجمع كما ذكره المصنف على معنى كل ومعنى.

قوله: "كل عبادك يقولون هذا" أي إنما أريد شيئاً تخصني به من بين عموم عبادك، وفى رواية بعد قوله: "كل عبادك يقولون هذا" - قل لا إله إلا الله، قال لا إله إلا أنت يا رب، إنما أريد شيئاً تخصني به.