إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 05-02-1435هـ



متن الدرس

وكذلك من نفي صفات الكمال عن الرب تعالى، خشية ما يتوهمه من التشبيه والتجسيم فقد جاء من التنقص بضد ما وصف الله سبحانه نفسه من الكمال.

والمقصود: أن هاتين الطائفتين هم أهل التنقص في الحقيقة، بل هم أعظم الناس تنقصا، لبس عليهم الشيطان حتى ظنوا أن تنقصهم هو الكمال. ولهذا كانت البدعة قرينة الشرك في كتاب الله تعالى، قال تعالى: (قُلْ إِنّمَا حَرَّمَ رَبِّىَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْىَ بغير الَحْقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 33].

فالإثم والبغى قرينان، والشرك والبدعة قرينان.

فصل

وأما نجاسة الذنوب والمعاصى، فإنها بوجه آخر، فإنها لا تستلزم تنقيص الربوبية، ولا سوء الظن بالله عز وجل. ولهذا لم يرتب الله سبحانه عليها من العقوبات والأحكام ما رتبه على الشرك، وهكذا استقرت الشريعة على أنه يعفي عن النجاسة المخففة، كالنجاسة في محل الاستجمار، وأسفل الخف، والحذاء، وبول الصبى الرضيع وغير ذلك، مالا يعْفي عن المغلظة.
وكذلك يعفي عن الصغائر ما لا يعفي عن الكبائر، ويعفي لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفي لمن ليس كذلك فلو لقى الموحد الذي لم يشرك بالله شيئا البتة ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده وشابه بالشرك. فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب. فإنه يتضمن من محبة الله تعالى وإجلاله، وتعظيمه، وخوفه، ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب، ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة، والدافع لها قوى فلا تثبت معه، ولكن نجاسة الزنا واللواط أغلظ من غيرهما من النجاسات، من جهة أنها تفسد القلب، وتضعف توحيده جدا، ولهذا كان أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركاء، فكلما كان الشرك في العبد أغلب كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر، وكلما كان أعظم إخلاصا كان منها أبعد، كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخْلَصِينَ) [يوسف: 24].

فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبد لها، بل هو من أعلى أنواع التعبد، ولاسيما إذا استولى على القلب وتمكن منه صار تتيما، والتتيم التعبد، فيصير العاشق عابدا لمعشوقه، وكثيرا ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه، والسعى في مرضاته، وإيثار محابه على حب الله وذكره، والسعى في مرضاته، بل كثيرا ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية، ويصير متعلقا بمعشوقه من الصور، كما هو مشاهد، فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عز وجل يقدم رضاه وحبه على رضي الله وحبه، ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله، وينفق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله، ويتجنب من سخطه ما لا يتجنب من سخط الله تعالى، فيصير آثر عنده من ربه: حبا، وخضوعا، وذلا، وسمعا، وطاعة.

ولهذا كان العشق والشرك متلازمين، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط، وعن امرأة العزيز، وكانت إذ ذاك مشركة، فكلما قوى شرك العبد بُلىَ بعشق الصور، وكلما قوى توحيده صرف ذلك عنه. والزنا واللواطة كمال لذتهما إنما يكون مع العشق ولا يخلو صاحبهما منه، وإنما لِتنقله من محل إلى محل لا يبقى عشقه مقصورا على محل واحد بل ينقسم على سهام كثيرة، لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده.

فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله، فإنهما من أعظم الخبائث، فإذا انصبغ القلب بهما بعد ممن هو طيب، لا يصعد إليه إلا طيب، وكلما ازداد خبثا ازداد من الله بعدا، ولهذا قال المسيح عليه السلام فيما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد: "لا يكون البطالون من الحكماء، ولا يلج الزناة ملكوت السماء".

ولما كانت هذا حال الزنا كان قريبا للشرك في كتاب الله تعالى. قال الله تعالى: (الزَّانِى لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرمَ ذلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ) [النور: 3].

والصواب: القول بأن هذه الآية محكمة يعمل بها لم ينسخها شيء، وهى مشتملة على خبر وتحريم، ولم يأت من ادعى نسخها بحجة البتة، والذي أشكل منها على كثير من الناس واضح بحمد الله تعالى، فإنهم أشكل عليهم قوله: (الزَّانِى لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) [النور: 3] هل هو خبر أو نهى، أو إباحة؟ فإن كان خبرا فقد رأينا كثيرا من الزناة ينكح عفيفة، وإن كان نهيا فيكون قد نهى الزانى أن يتزوج إلا بزانية أو مشركة، فيكون نهياً له عن نكاح المؤمنات العفائف، وإباحة له في نكاح المشركات والزوانى، والله سبحانه لم يرد ذلك قطعاً، فلما أشكل عليهم ذلك طلبوا للآية وجها يصح حملها عليه.

فقال بعضهم: المراد من النكاح الوطء والزنا، فكأنه قال: الزانى لا يزنى إلا بزانية أو مشركة.
وهذا فاسد، فإنه لا فائدة فيه، ويصان كلام الله تعالى عن حمله على مثل ذلك، فإنه من المعلوم أن الزانى لا يزنى إلا بزانية، فأى فائدة في الإخبار بذلك؟ ولما رأى الجمهور فساد هذا التأويل أعرضوا عنه.

ثم قالت طائفة: هذا عام اللفظ خاص المعنى، والمراد به رجل واحد وامرأة واحدة وهى عناق البَغِى وصاحبها فإنه أسلم، واستأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في نكاحها فنزلت هذه الآية.

وهذا أيضاً فاسد، فإن هذه الصورة المعينة وإن كانت سبب النزول فالقرآن لا يقتصر به على محال أسبابه ولو كان كذلك لبطل الاستدلال به على غيرها.

وقالت طائفة: بل الآية منسوخة بقوله: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ) [النور: 32].

وهذا أفسد من الكل، فإنه لا تعارض بين هاتين الآيتين، ولا تناقض إحداهما الأخرى، بل أمر سبحانه بإنكاح الأيامى، وحرم نكاح الزانية، كما حرم نكاح المعتدة والمحرمة، وذوات المحارم، فأين الناسخ والمنسوخ في هذا؟.

فإن قيل: فما وجه الآية؟.

قيل: وجهها، والله أعلم، أن المتزوج أمر أن يتزوج المحصنة العفيفة، وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط، كما ذكر ذلك سبحانه في سورتى النساء والمائدة والحكم المعلق على الشرط ينتفي عند انتفائه، والإباحة قد علقت على شرط الإحصان، فإذا انتفي الإحصان انتفت الإباحة المشروطة به، فالمتزوج إما أن يلتزم حكم الله وشرعه الذي شرعه على لسان رسوله، أو لا يلتزمه، فإن لم يلتزمه فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله، وإن التزمه وخالفه ونكح ما حرم عليه، لم يصح النكاح، فيكون زانيا، فظهر معنى قوله:(لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيةً أَوْ مُشْرِكَةً) [النور: 3] وتبين غاية البيان وكذلك حكم المرأة.

وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه فهو موجب الفطرة. ومقتضى العقل.