فتح المجيد شرح كتاب التوحيد 23-01-1435هـ



متن الدرس

فقوله في الحديث وحده لا شريك له تأكيد وبيان لمضمون معناها .

وقد أوضح الله تعالى ذلك وبينه في قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين، فما أجهل عباد القبور بحالهم! وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك المنافي لكلمة الإخلاص لا إله إلا الله! فإن مشركي العرب ونحوهم جحدوا لا إله إلا الله لفظاً ومعنى وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظاً وجحدوها معنى، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بأنواع العبادة، كالحب والتعظيم، والخوف والرجاء والتوكل والدعاء، وغير ذلك من أنواع العبادة؛ بل زاد شركهم على شرك العرب بمراتب، فإن أحدهم إذا وقع في شدة أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ويعتقدون أنه أسرع فرجاً من الله ، بخلاف حال المشركين الأولين، فإنهم يشركون في الرخاء ، وأما في الشدائد فإنما يخلصون لله وحده، كما قال تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) الآية . فبهذا يتبين أن مشركي أهل هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم.

 

معنى محمد رسول الله

وقوله : (وأن محمداً عبده ورسوله) أي: وشهد بذلك، وهو معطوف على ما قبله على نية تكرار العامل، ومعنى العبد هنا المملوك العابد ، أي أنه مملوك لله تعالى. والعبودية الخاصة وصفه، كما قال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) فأعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة فالنبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين.

وأما الربوبية والإلهية فهما حق الله تعالى، لا يشركه في شيء منهما ملك مقرب ولا نبي مرسل. وقوله: عبده ورسوله أتى بهاتين الصفتين وجمعهما دفعاً للإفراط والتفريط، فإن كثيراً ممن يدعى أنه من أمته أفرط بالغلو قولاً وعملاً، وفرط بترك متابعته، واعتمد على الآراء المخالفة لما جاء به، وتعسف في تأويل أخباره وأحكامه، بصرفها عن مدلولها والصدوف عن الانقياد لها مع إطراحها فإن شهادة أن محمداً رسول الله تقتضى الإيمان به وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، وأن يعظم أمره ونهيه، ولا يقدم عليه قول أحد كائناً من كان. والواقع اليوم وقبله - ممن يتنسب إلى العلم من القضاة والمفتين - خلاف ذلك، والله المستعان .

وروى الدارمى في مسنده عن عبدالله بن سلام رضي الله عنه أنه كان يقول: إنا لنجد صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزى بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويتجاوز، ولن أقبضه حتى يقيم الملة المتعوجة بأن يشهد أن لا إله إلا الله ، يفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، قال عطاء بن يسار: وأخبرني أبو واقد الليثي أنه سمع كعباً يقول مثل ما قال ابن سلام.

 

معنى أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته

قوله : (وأن عيسى عبد الله ورسوله) أي خلافاً لما يعتقده النصارى أنه الله أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة . تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) فلا بد أن يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله على علم ويقين بأنه مملوك لله، خلقه من أنثى بلا ذكر كما قال تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فليس رباً ولا إلهاً. سبحان الله عما يشركون قال تعالى '19 : 29 - 36': (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً* قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً* وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً* وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً* وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً* ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ* مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)، وقال: (لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) ويشهد المؤمن أيضاً ببطلان قول أعدائه اليهود: أنه ولد بغى، لعنهم الله تعالى .

فلا يصح إسلام أحد علم ما كانوا يقولونه حتى يبرأ من قول الطائفتين جميعاً في عيسى عليه السلام ، ويعتقد ما قاله الله تعالى فيه: أنه عبد الله ورسوله .