فتح المجيد شرح كتاب التوحيد 16-01-1435هـ




متن الدرس

قال النووي : هذا حديث عظيم جليل الموقع، وهو أجمع - أو من أجمع - الأحاديث المشتملة على العقائد . فإنه صلى الله عليه وسلم جمع فيه ما يخرج من ملل الكفر على اختلاف عقائدههم وتباعدها . فاقتصر صلى الله عليه وسلم في هذه الأحرف على ما يباين جميعهم انتهى.

معنى لا إله إلا الله

ومعنى لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله . وهو فى غير موضع من القرآن ، ويأتيك في قول البقاعى صريحا قوله (وحده) تأكيد للإثبات (لا شريك له) تأكيد للنفى . قال الحافظ : كما قال تعالى : "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" وقال : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)، وقال: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) فأجابوه رداً عليه بقولهم: (أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) وقال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ).

فتضمن ذلك نفى الإلهية عما سوى الله ، وهي العبادة . وإثباتها لله وحده لا شريك له ، والقرآن من أوله إلى آخره يبين هذا ويقرره ويرشد إليه .

فالعبادة بجميع أنواعها إنما تصدر عن تأله القلب بالحب والخضوع والتذلل رغباً ورهباً ، وهذا كله لا يستحقه إلا الله تعالى، كما تقدم في أدلة هذا الباب وما قبله. فمن صرف من ذلك شيئاً لغير الله فقد جعله لله نداً ، فلا ينفعه مع ذلك قول ولا عمل.

(ذكر كلام العلماء ، في معنى لا إله إلا الله)

قد تقدم كلام ابن عباس ، وقال الوزير أبو المظفر في الإفصاح : قوله : شهادة أن لا إله إلا الله يقتضى أن يكون الشاهد عالماً بأنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) قال: واسم (الله) بعد (إلا) من حيث أنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه. قال : وجملة الفائدة في ذلك : أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله .

وقال ابن القيم في البدائع رداً لقول من قال: إن المستثنى مخرج من المستثنى منه. قال ابن القيم : بل هو مخرج من المستثنى منه وحكمه، فلا يكون داخلاً في المستثنى، إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله: لا إله إلا الله لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى .

وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفى الإلهية عما سوى الله وإثباتها له بوصف الاختصاص. فدلالتها على إثبات إلهيته أعظم من دلالة قولنا : (الله إله) ولا يستريب أحد في هذا البتة. انتهى بمعناه .

وقال أبو عبدالله القرطبي في تفسيره (لا إله إلا الله) أي لا معبود إلا هو .

وقال الزمخشرى : الإله من أسماء الأجناس . كالرجل والفرس ، يقع على كل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بحق .

وقال شيخ الإسلام : الإله هو المعبود المطاع ، فإن الإله هو المألوه ، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد . وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب ، المخضوع له غاية الخضوع، قال : فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها ، وتدعوه في مهماتها ، وتتوكل عليه في مصالحها ، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه ، وليس ذلك إلا لله وحده ، ولهذا كانت (لا إله إلا الله) أصدق الكلام ، وكان أهلها أهل الله وحزبه ، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته ، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق ، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله .

وقال ابن القيم : (الإله) هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وإنابة، وإكراماً وتعظيماً وذلاً وخضوعاً وخوفاً ورجاء وتوكلاً .

وقال ابن رجب: (الإله) هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالاً، ومحبة وخوفاً ورجاء ، وتوكلاً عليه، وسؤالاً منه ودعاء له، ولا يصلح هذا كله إلا الله عز وجل، فمن أشرك مخلوقاً في شي من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحاً في إخلاصه في قول (لا إله إلا الله) وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك .

وقال البقاعي: لا إله إلا الله ، أي انتفاء عظيماً أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علماً إذا كان نافعاً، وإنما يكون نافعاً إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف .

وقال الطيبي : (الإله) فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلهة أي عبد عبادة.

قال الشارح: وهذا كثير في كلام العلماء وإجماع منهم...

فدلت (لا إله إلا الله) على نفي العبادة عن كل ما سوى الله كائناً ما كان، وإثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه ، وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ودل عليه القرآن من أوله إلى آخره، كما قال تعالى عن الجن: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً)، فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفياً وإثباتاً، واعتقد ذلك وقبله وعمل به. وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل، فقد تقدم في كلام العلماء أن هذا جهل صرف، فهي حجة عليه بلا ريب .

فقوله في الحديث وحده لا شريك له تأكيد وبيان لمضمون معناها .