فتح المجيد شرح كتاب التوحيد 09-01-1435هـ




متن الدرس

باب بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

باب خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا (قلت) ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره هذا . و ما يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف ، أي وبيان الذي يكفره من الذنوب ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي وتكفيره الذنوب ، وهذا الثانى أظهر .

قوله : وقول الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) قال ابن جرير: حدثنى المثنى - وساق بسنده - عن الربيع بن أنس قال: الإيمان الإخلاص لله وحده.

وقال ابن كثير في الآية : أي هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده ولم يشركوا به شيئاً هم الآمنون يوم القيامة ، المهتدون في الدنيا والآخرة . وقال زيد بن أسلم وابن إسحاق : هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه .

وعن ابن مسعود : لما نزلت هذه الآية قالوا: فأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس بذلكم ، ألم تسمعوا إلى قول لقمان: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) " .

وساقه البخارى بسنده فقال: حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنى إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال:  لما نزلت : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) قلنا يا رسول الله: أينا لا يظلم نفسه؟ قال: "ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم، بشرك. أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)".

ولأحمد بنحوه عن عبد الله قال: لما نزلت (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله: فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: "إنه ليس الذي تعنون. ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) إنما هو الشرك" .

 وعن عمر أنه فسره بالذنب. فيكون المعن : الأمن من كل عذاب. وقال الحسن والكلبي: أولئك لهم الأمن، في الآخرة، وهم مهتدون في الدنيا.

قال شيخ الإسلام : والذي شق عليهم أنهم ظنوا أن الظالم المشروط عدمه هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه. فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن يلبس إيمانه بهذا الظلم، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء، كما كان من أهل الاصطفاء في قوله : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) وهذا لا ينفى أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب كما قال تعالى:  (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه) وقد سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، أينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: "يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن ؟ أليس يصيبك اللأواء ؟ فذلك ما تجزون به".

فبين أن المؤمن إذا مات دخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب. فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة:

الشرك.

وظلم العباد.

وظلمه لنفسه بما دون الشرك . كان له الأمن التام والاهتداء التام . ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء المطلق . بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى : وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة . ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله إنما هو الشرك أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام . فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف، لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام اللذين يكونون بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم، من غير عذاب يحصل لهم. بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط، ومعهم أصل نعمة الله عليهم ولابد لهم من دخول الجنة.

وقوله إنما هو الشرك إن أراد الأكبر، فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة . وإن كان مراده جنس الشرك . فيقال ظلم العبد نفسه، كبخله لحب المال ببعض الواجب - هو شرك أصغر . وحبه ما يبغضه الله تعالى حتى يقدم هواه على محبة الله الشرك أصغر ونحو ذلك . فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه . ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الشرك بهذا الاعتبار انتهى ملخصا.

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) قال الصحابة: وأينا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال: "ذلك الشرك. ألم تسمعوا قول العبد الصالح: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) " لما أشكل عليهم المراد بالظلم فظنوا أن ظلم النفس داخل فيه .

وأن من ظلم نفسه أي ظلم كان لم يكن آمناً ولا مهتدياً. أجابهم صلوات الله وسلامه عليه بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك . وهذا والله هو الجواب، الذي يشفي العليل ويروي الغليل. فإن الظلم المطلق التام هو الشرك . الذي هو وضع العبادة في غير موضعها . والأمن والهدى المطلق : هما الأمن في الدنيا والآخرة.

والهدى إلى الصراط المستقيم . فالظلم المطلق التام رافع للأمن والاهتداء المطلق التام . ولا يمنع أن يكون الظلم مانعاً من مطلق الأمن ومطلق الهدى . فتأمله . فالمطلق للمطلق ، والحصة للحصة انتهى ملخصاً .

حديث عبادة من شهد أن لا إله إلا الله ...إلخ

وقوله: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه . والجنة حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل". أخرجاه

عبادة بن الصامت بن قيس الأنصارى الخزرجى، أبو الوليد، أحد النقباء بدرى مشهور مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله اثنتان وسبعون سنة ، وقيل : عاش إلى خلافة معاوية رضي الله عنه .

قوله: "من شهد أن لا إله إلا الله" أي من تكلم بها عارفاً لمعناها، عاملاً بمقتضاها، باطناً وظاهراً، فلابد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولها، كما قال الله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) وقوله: (إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه : من البراءة من الشرك ، وإخلاص القول والعمل : قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح - فغير نافع بالإجماع .

قال المفهم على صحيح مسلم : باب لا يكفى مجرد التلفظ بالشهادتين بل لابد من استيقان القلب - هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة ، القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان . وأحاديث هذا الباب تدل على فساده . بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها . ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح . وهو باطل قطعاً انتهى.

وفى هذا الحديث ما يدل على هذا. وهو قوله: من شهد فإن الشهادة لا تصح إلا إذا كانت عن علم ويقين وإخلاص وصدق .