فتح المجيد شرح كتاب التوحيد 25-11-1434هـ


متن الدرس:

قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: ولنذكر في الصراط المستقيم قولاً وجيزاً فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شيء واحد، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلاً لهم إليه ولا طريق إليه سواه، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله، وجعله موصلاً لعباده إليه وهو إفراده بالعبادة، وإفراد رسله بالطاعة، فلا يشرك به أحداً في عبادته ولا يشرك برسوله صلى الله عليه وسلم أحداً في طاعته. فيجرد التوحيد، ويجرد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فأي شيء فسر به الصراط المستقيم فهو داخل في هذين الأصلين. ونكتة ذلك، أن تحبه بقلبك وترضيه بجهدك كله ، فلا يكون في قلبك موضع إلا معموراً بحبه، ولا يكون لك إرادة متعلقة بمرضاته:

فالأول: يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله.

والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمداً رسول الله. وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث الله به رسوله والقيام به، وقل ما شئت من العبارات التي هذا آخيتها وقطب رحاها.

قال : وقال سهل بن عبدالله : عليكم بالأثر والسنة، فإني أخاف، إنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرأوا منه، وأذلوه وأهانوه . أ هـ .

قال المصنف رحمه الله تعالى: قال ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التى عليها خاتمه فليقرأ: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) - إلى قوله – (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) الآية.

قوله: ابن مسعود هو عبدالله بن مسعود بن غافل - بمعجمة وفاء - ابن حبيب الهذلى أبو عبد الرحمن ، صحابي جليل من السابقين الأولين، وأهل بدر وأحد والخندق وبيعة الرضوان من كبار علماء الصحابة ، أمر عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين رضي الله عنه .

وهذا الأثر رواه الترمذي وحسنه، وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبرانى بنحوه.

وقال بعضهم: معناه من أراد أن ينظر إلى الوصية التي كأنها كتب وختم عليها فلم تغير ولم تبدل فليقرأ: (قل تعالوا) إلى آخر الآيات شبهها بالكتاب الذي كتب ثم ختم فلم يزد فيه ولم ينقص. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص إلا بكتاب الله، كما قال فيما رواه مسلم: "وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله" وقد روى عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم يبايعنى على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا قوله: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) حتى فرغ من الثلاث الآيات. ثم قال: من وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله به فى الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه" رواه ابن أبي حاتم والحاكم وصححه ومحمد بن نصر في الاعتصام.

قلت: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص أمته إلا بما وصاهم به الله تعالى على لسانه. وفى كتابه الذي أنزله: (تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) وهذه الآيات وصية الله تعالى ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن معاذ بن جبل قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: "يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟" . قلت : الله ورسوله أعلم . قال:  "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً"، قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا". أخرجاه في الصحيحين.

الشرح: هذا الحديث في الصحيحين من طرق . وفى بعض رواياته نحو مما ذكره المصنف .

ومعاذ بن جبل رضي الله عنه هو ابن عمرو بن أوس الأنصارى الخزرجى أبو عبدالرحمن صحابي مشهور من أعيان الصحابة، شهد بدراً وما بعدها. وكان إليه المنتهى في العلم والأحكام والقرآن رضي الله عنه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم معاذ يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة أي بخطوة، قال في القاموس والرتوة الخطوة وشرف من الأرض ، وسويعة من الزمان، والدعوة، والفطرة، ورمية بسهم أو نحو ميل أو مدى البصر. والراتي العالم الرباني. انتهى

وقال في النهاية أنه يتقدم العلماء برتوة أي برمية سهم . وقيل : بميل ، وقيل : مد البصر . وهذه الثلاثة أشبه بمعنى الحديث. مات معاذ سنة ثماني عشرة بالشام في طاعون عمواس . وقد استخلفه صلى الله عليه وسلم على أهل مكة يوم الفتح يعلمهم دينهم.

قوله : "كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم" فيه جواز الإرداف على الدابة ، وفضيلة معاذ رضي الله عنه.

قوله : "على حمار" في رواية اسمه عفير، قلت : أهداه إليه المقوقس صاحب مصر.

وفيه : تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار والإرادف عليه، خلافاً لما عليه أهل الكبر .

قوله : "أتدرى ما حق الله على العباد" أخرج السؤال بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس وأبلغ في فهم المتعلم وحق الله على العباد وهو ما يستحقه عليهم وحق العباد على الله معناه أنه متحقق لا محالة، لأنه وعدهم ذلك جزاء لهم على توحيده "وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ" .

قال شيخ الإسلام: كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل ، ليس هو استحقاق مقابلة ، كما يستحق المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول: لا معنى للاستحقاق، إلا أنه أخبر بذلك ووعده صدق، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقاً زائداً على هذا، كما دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) لكن أهل السنة يقولون: هو الذي كتب على نفسه الرحمة وأوجب على نفسه الحق، ولم يوجبه عليه مخلوق، والمعتزلة يدعون أنه واجب عليه بالقياس على المخلوق وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب، وغلطوا في ذلك ، وهذا الباب غلطت فيه الجبرية والقدرية أتباع جهم والقدرية النافية .

قوله: "قلت الله ورسوله أعلم" فيه حسن الأدب من المتعلم ، وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك ، بخلاف أكثر المتكلفين .

قوله: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" أي يوحدوه بالعبادة. ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله حيث عرف العبادة بتعريف جامع فقال :

وعبادة الرحمن غاية حبه *** مع ذل عابده هما قطبان

ومداره بالأمر - أمر رسوله- *** لا بالهوى والنفس والشيطان

قوله : "ولا يشركوا به شيئاً" أي: يوحدوه بالعبادة، فلابد من التجرد من الشرك في العبادة، ومن لم يتجرد من الشرك لم يكن آتياً بعبادة الله وحده ، بل هو مشرك قد جعل لله نداً. وهذا معنى قول المصنف رحمه الله :

(وفيه أن العبادة هي: التوحيد، لأن الخصومة فيه، وفى بعض الآثار الإلهية: إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إني العباد نازل، وشرهم إلى صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلى بالمعاصى).