شرح فتح المجيد 19-02-1437هـ



بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعل آله وأصحابه أجمعين، أما بعد

متن الدرس

قال المُصنِّف–رحمهُ الله تعالى-:
فيه مسائل:     
الأولى: تفسير الآيتين.
الثانية: قصة أحد.
الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمِّنون في الصلاة.
الرابعة: أن المدعو عليهم كفار.
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار. منها: شجهم نبيهم وحرصهم على قتله، ومنها: التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم.
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾.
السابعة: قوله: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ ( ). فتاب عليهم فآمنوا.
الثامنة: القنوت في النوازل.
التاسعة : تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم.
العاشرة : لعن المعين في القنوت.
الحادية عشرة : قصته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  لما أُنزل عليه: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ ( ).
الثانية عشرة : جِده -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا الأمر،  بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن.
الثالثة عشرة : قوله للأبعد والأقرب: لا أغني عنك من الله شيئاً، حتى قال: يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً. فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئاً عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان بأنه لا يقول إلا الحق، ثم نظر في ما وقع في قلوب خواص الناس اليوم، تبين له ترك التوحيد وغربة الدين .

قال المصنِّف-رحمه الله تعالى-:
باب قول الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾( ).
قوْلهُ: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ)، أي زال الفزع عنها. قاله ابن عباس وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي والحسن وغيرهم.
وقال ابن جرير: قال بعضهم: الذين فزع عن قلوبهم: الملائكة. قالوا: وإنما فزّع
عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم كلام الله بالوحي.
وقال ابن عطية: في الكلام حذف يدل عليه الظاهر. كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم، بل هم عبدة مسلمون لله أبدا; يعني منقادون، حتى إذا فزع عن قلوبهم. والمراد الملائكة على ما اختاره ابن جرير وغيره.
قال ابن كثير: وهو الحق الذي لا مرية فيه; لصحة الأحاديث فيه والآثار.
وقال أبو حيان: تظاهرت الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن قوله: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} إنما هي الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل يأمره الله به سمعت كَجرِّ سلسلة الحديد على الصفوان، فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة. قال: وبهذا المعنى - من ذكر الملائكة في صدر الآية - تتسق هذه الآية على الأولى، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله: " الذين زعمتم " لم تتصل له هذه الآية بما قبلها.
قوله: " قالوا ماذا قال ربكم " ولم يقولوا ماذا خلق ربنا؟ ولو كان كلام الله مخلوقا لقالوا: ماذا خلق؟. انتهى من شرح سنن ابن ماجه.
ومثله الحديث: " ماذا قال ربنا يا جبريل؟ ". وأمثال هذا في الكتاب والسنة كثير.
قوله:  {قَالُوا الْحَقَّ} أي قال الله الحق. وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله صعقوا ثم إذا أفاقوا أخذوا يسألون، فيقولون: ماذا قال ربكم؟ فيقولون: قال الحق.
قوله:  {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، علو القدر وعلو القهر وعلو الذات، فله العلو الكامل من جميع الوجوه، كما قال عبد الله بن المبارك لما قيل له: بما نعرف ربنا ؟ قال: "بأنه على عرشه بائن من خلقه" تمسكا منه بالقرآن لقوله تعالى:  {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى في سبعة مواضع من القرآن.
قوله: { الْكَبِيرُ} أي الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه تبارك وتعالى.
قال المصنِّف –رحِمهُ اللهُ تعالى-: وفي (الصحيح) عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  قال: ((إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك. حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير. فيسمعها مسترق السمع -ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء)).
قوله: "في الصحيح" أي صحيح البخاري.
قوله: "إذا قضى الله الأمر في السماء" أي إذا تكلم الله بالأمر الذي يوحيه إلى جبريل بما أراده، كما صرح به في الحديث الآتي، وكما روى سعيد بن منصور وأبو داود وابن جرير عن ابن مسعود: " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان ".
وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: " لما أوحى الجبار إلى محمد صلي الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي. فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله. فقالوا: الحق. وعلموا أن الله لا يقول إلا حقا "6.
قوله: "ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله" أي لقول الله تعالى. قال الحافظ خضعانا بفتحتين من الخضوع. وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه. وهو مصدر بمعنى خاضعين.
قوله: "كأنه سلسلة على صفوان" أي كأن الصوت المسموع سلسلة على صفوان وهو الحجر الأملس.
 ذلك، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع- ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان بكفه، فحرفها وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته.
قوله: "ينفذهم ذلك" هو بفتح التحتية وسكون النون وضم الفاء والذال المعجمة "ذلك" أي القول، والضمير في "ينفذهم" للملائكة، أي ينفذ ذلك القول الملائكة أي يخلص ذلك القول ويمضي فيهم حتى يفزعوا منه. وعند ابن مردويه من حديث ابن عباس: " فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا ". وعند أبي داود وغيره مرفوعا " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل "الحديث.
قوله:  {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم} تقدم معناه.
قوله:  {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} أي قالوا: قال الله الحق، علموا أن الله لا يقول إلا الحق.
قوله: "فيسمعها مسترق السمع" أي يسمع الكلمة التي قضاها الله، وهم الشياطين يركب بعضهم بعضا.
وفي صحيح البخاري عن عائشة مرفوعا: " إن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قُضِيَ في السماء، فتسترق الشياطين السمع; فتوحيه إلى الكهان ".
قوله: "ومسترق السمع هكذا وصفه سفيان بكفه" أي وصف ركوب بعضهم فوق بعض.
وسفيان: هو ابن عيينة أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ، فقيه إمام حجة، مات سنة ثمان وتسعين ومائة، وله إحدى وتسعون سنة.
 ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يُدركه، فيكذب معها مائة كذبة. فقال:
قوله: "فحرّفها" بحاء مهملة وراء مشددة وفاء. قوله: "وبدّد" أي فرق بين أصابعه.:
 قوله: "فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته" أي يسمع الفوقاني الكلمة فيلقيها إلى آخر تحته، ثم يلقيها إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن. قوله: "فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها" الشهاب: هو النجم الذي يرمى به; أي ربما أدرك الشهاب المسترق، وهذا يدل على أن الرمي بالشهب قبل المبعث. لما روى أحمد وغيره - والسياق له في المسند من طريق معمر -: أنبأنا الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال:
" كان رسول الله -صلي الله عليه وسلم- جالسا في نفر من أصحابه - قال عبد الرزاق: من الأنصار- قال: فرُمي بنجم عظيم فاستنار، قال": ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية؟" قال: كنا نقول: لعله يولد عظيم أو يموت - قلت للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكن غلظت حين بعث النبي -صلي الله عليه وسلم – قال": فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن - ربنا تبارك - اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح هذه السماء الدنيا. ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، وتخطف الجن السمع فيرمون; فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون " قال عبد الله: قال أبي: قال عبد الرزاق: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟ فيصدّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء.
وعن النوّاس بن سمعان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم: -إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، ويخطف الجن ويرمون ". وفي رواية له: " لكنهم يزيدون فيه ويقرفون وينقصون "5.
قوله: "فيكذب معها مائة كذبة" أي الكاهن أو الساحر.
و"كذبة" بفتح الكاف وسكون الذال المعجمة.
قوله: "فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟" هكذا في نسخة بخط المصنف، وكالذي في صحيح البخاري سواء.
قال المصنف "وفيه قبول النفوس للباطل; كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة كذبة؟".
وفيه: أن الشيء إذا كان فيه شيء من الحق فلا يدل على أنه حق كله، فكثيرا ما يلبس أهل الضلال الحق بالباطل ليكون أقبل لباطلهم، قال تعالى:  {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.}
وفي هذه الأحاديث وما بعدها وما في معناها: إثبات علو الله تعالى على خلقه على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء بكلام يسمعه الملائكة، وهذا قول أهل السنة قاطبة سلفا وخلفا. خلافا للأشاعرة والجهمية; ونفاة المعتزلة. فإياك أن تلتفت إلى ما زخرفه أهل التعطيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.