إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 12-02-1435هـ



متن الدرس

وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه فهو موجب الفطرة. ومقتضى العقل.

فإن الله سبحانه حرم على عبده أن يكون قَرْنانًا دَيُّوثا زوج بغى، فإن الله فطر الناس على استقباح ذلك واستهجانه، ولهذا إذا بالغوا في سب الرجل قالوا زوج قحبة، فحرم الله على المسلم أن يكون كذلك.

فظهرت حكمة التحريم وبان معنى الآية، والله الموفق.

ومما يوضح التحريم، وأنه هو الذي يليق بهذه الشريعة الكاملة: أن هذه الجناية من المرأة تعود بفساد فراش الزوج وفساد النسب الذي جعله الله تعالى بين الناس لتمام مصالحهم، وعده من جملة نعمه عليهم، فالزنا يفضى إلى اختلاط المياه، واشتباه الأنساب، فمن محاسن الشريعة: تحريم نكاح الزانية، حتى تتوب وتستبرأ.

وأيضاً فإن الزانية خبيثة، كما تقدم بيانه، والله سبحانه جعل النكاح سببا للمودة والرحمة والمودة وخالص الحب، فكيف تكون الخبيثة مودودة للطيب، زوجا له، والزوج سمى زوجا من الازدواج وهو الاشتباه فالزوجان الاثنان المتشابهان، والمنافرة ثابتة بين الطيب والخبيث شرعاً وقَدَرًا، فلا يحصل معها الازدواج والتراحم والتواد، فلقد أحسن كل الإحسان من ذهب إلى هذا المذهب، ومنع الرجل أن يكون زوج قحبة.

فأين هذا من قول من جوز أن يتزوجها ويطأها الليلة، وقد وطئها الزانى البارحة، وقال: ماء الزاني لا حرمة له، فهب أن الأمر كذلك، فماء الزوج له حرمة، فكيف يجوز اجتماعه مع ماء الزاني في رحم واحد؟

والمقصود: أن الله سبحانه سمى الزوانى والزناة خبيثين وخبيثات، وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة، وإن كان حلالا، وسمى فاعله جنبا، لبعده عن قراءة القرآن، وعن الصلاة، وعن المساجد، فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء. فكذلك إذا كان حراما يبعد القلب عن الله تعالى، وعن الدار الآخرة، بل يحول بينه وبين الإيمان، حتى يحدث طهرا كاملا بالتوبة، وطهرًا لبدنه بالماء. وقول اللوطية: (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [الأعراف: 82].

من جنس قوله سبحانه في أصحاب الأخدود: (وَمَا نَقَموا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الحمِيدِ) [البروج: 8] وقوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) [المائدة: 59].

وهكذا المشرك إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد، وأنه لا يشوبه بالإشراك. وهكذا المبتدع: إنما ينقم على السنى تجريده متابعة الرسول، وأنه لم يشبها بآراء الرجال، ولا بشيء مما خالفها. فصبر الموحد المتبع للرسول على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة خير له وأنفع، وأسهل عليه من صبره على ما ينقمه الله ورسوله عليه من موافقة أهل الشرك والبدعة. إذَا لَمْ يَكُنْ بُد مِنَ الصَّبْرِ فَاصْطَبِرْ عَلَى الحقِّ ذَاكَ الصَّبْرُ تُحْمَدُ عُقْبَاهُ.

الباب العاشر: في علامات مرض القلب وصحته

كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص، به كماله في حصول ذلك الفعل منه، ومرضه: أن يتعذر عليه الفعل الذي خلق له، حتى لا يصدر منه، أو يصدر مع نوع من الاضطراب:

فمرض اليد: أن يتعذر عليها البطش.

ومرض العين: أن يتعذر عليها النظر والرؤية.

ومرض اللسان: أن يتعذر عليه النطق.

ومرض البدن: أن يتعذر عليه حركته الطبيعية أو يضعف عنها.

ومرض القلب: أن يتعذر عليه ما خلق له من المعرفة بالله ومحبته والشوق إلى لقائه، والإنابة إليه، وإيثار ذلك على كل شهوته.

فلو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه، فكأنه لم يعرف شيئا، ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها ولم يظفر بمحبة الله، والشوق إليه، والأنس به، فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين، بل إذا كان القلب خاليا عن ذلك عادت تلك الحظوظ واللذات عذابا له ولا بد، فيصير معذبا بنفس ما كان منعما به من جهتين من جهة حسرة فوته، وأنه حيل بينه وبينه، مع شدة تعلق روحه به، ومن جهة فوت ما هو خير له وأنفع وأدوم، حيث لم يحصل له، فالمحبوب الحاصل فات، والمحبوب الأعظم لم يظفر به، وكل من عرف الله أحبه، وأخلص العبادة له ولا بد، ولم يؤثر عليه شيئا من المحبوبات، فمن آثر عليه شيئا من المحبوبات فقلبه مريض، كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث وآثرته على الطيب سقطت عنها شهوة الطيب، وتعوضت بمحبة غيره.

وقد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه، لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة.