إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 14-01-1435هـ



متن الدرس

وقال قتادة: (قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاهَا) [الشمس: 9] "من عمل خيرا زكاها بطاعة الله عز وجل" وقال أيضا: "قد أفلح من زكى نفسه بعمل صالح" وقال الحسن: "قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله تعالى، وقد خاب من أهلكها وحملها على معصية الله تعالى" قال ابن قتيبة: "يريد أفلح من زكى نفسه، أي نماها وأعلاها بالطاعة والبر والصدقة، واصطناع المعروف".

{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10] أي نقصها وأخفاها بترك عمل البر وركوب المعاصي. والفاجر أبدا خفي المكان، زَمِن المروءة، غامض الشخص، ناكس الرأس. فمرتكب الفواحش قد دس نفسه وقمعها، ومصطنع المعروف شهر نفسه ورفعها. وكانت أجواد العرب تنزل الربى ويفاع الأرض لتشهر أماكنها للمعتفين. وتوقد النيران في الليل للطارقين. وكانت اللئام تنزل الأولاج والأطراف والأهضام، لتخفي أماكنها على الطالبين، فأولئك أعلوا أنفسهم وزكوها، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها. وأنشد: وَبَوَّاب بَيْتِكَ في مَعْلَمٍ رَحيبِ المَباءَةِ وَالمَسْرَحِ كَفَيْتَ الْعُفَاةَ طِلابَ الْقِرَى وَنَبحَ الْكلابِ لِمُسْتَنْبِح فهذان قولان مشهوران في الآية.

وفيها قول ثالث: أن المعنى: خاب من دس نفسه مع الصالحين وليس منهم، حكاه الواحدى، قال: ومعنى هذا: أنه أخفي نفسه في الصالحين، يرى الناس أنه منهم وهو منطو على غير ما ينطوى عليه الصالحون.

وهذا- وإن كان حقا في نفسه- لكن في كونه هو المراد بالآية نظر، وإنما يدخل في الآية بطريق العموم. فإن الذي يدس نفسه بالفجور إذا خالط أهل الخير دس نفسه فيهم، والله تعالى أعلم.

***

الباب التاسع: في طهارة القلب من أدرانه ونجاساته

هذا الباب وإن كان داخلا فيما قبله، كما بينا أن الزكاة لا تحصل إلا بالطهارة، ولكنا أفردناه بالذكر لبيان معنى طهارته، وشدة الحاجة إليها، ودلالة القرآن والسنة عليها. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبّكَ فَكَبِّرْ وَثِياَبَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 1- 4] وقال تعالى: {أُولئِكَ الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ في الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41].

وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب هاهنا القلب، والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والأخلاق.

قال الواحدي: اختلف المفسرون في معناه، فروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال "يعنى من الإثم، ومما كانت الجاهلية تجيزه" وهذا قول قتادة ومجاهد، قالا: "نفسك فطهرها من الذنب" ونحوه قول الشعبي وإبراهيم والضحاك والزهري. وعلى هذا القول: "الثياب" عبارة عن النفس، والعرب تكنى بالثياب عن النفس ومنه قول الشماخ: رَمَوْهَا بِأَثْوَابٍ خِفَافٍ، فَلا تَرَى لَها شَبهًا إلا النَّعَامَ المُنَفرَا رموها يعنى الركاب بأبدانهم. وقال عنترة: فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الأَصَمِّثِياَبَهُ لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلَى الْقَنَى بِمُحَرَّمِ يعنى نفسه.

وقال في رواية الكلبي: يعنى لا تغدر، فتكون غادرا دنس الثياب. وقال سعيد بن جبير: "كان الرجل إذا كان غادرا قيل: دنس الثياب، وخبيث الثياب" وقال عكرمة: "لا تلبس ثوبك على معصية، ولا على فُجْرة" وروى ذلك عن ابن عباس، واحتج بقول الشاعر: وَإنِّي بِحَمْدِ اللهِ لا ثَوْبَ غَادِرٍ لَبِسْتُ، وَلا مِنْ خِزْيَةٍ أَتَقَنَّعُ وهذا المعنى أراد من قال في هذه الآية "وعملك فأصلح" وهو قول أبى رزين ورواية منصور عن مجاهد وأبى رَوْق، وقال السُّدى: يقال للرجل إذا كان صالحا: إنه لطاهر الثياب، وإذا كان فاجراً: إنه لخبيث الثياب. قال الشاعر:

لا هُمَّ إنَّ عَامِرَ بْنَ جَهْمِ *** أوْ ذَمَ حَجا في ثِيابٍ دُسْمِ

يعنى أنه متدنس بالخطايا، وكما وصفوا الغادر الفاجر بدنس الثوب وصفوا الصالح بطهارة الثوب، قال امرؤ القيس: ثِيابُ بِني عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ يريد أنهم لا يغدرون، بل يفون، وقال الحسن: "خُلقُك فحسنه"، وهذا قول القرطبي، وعلى هذا: الثياب عبارة عن الخلق؛ لأن خلق الإنسان يشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه.

وروى العوفي عن ابن عباس في هذه الآية "لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طيب" والمعنى طهرها من أن تكون مغصوبة، أو من وجه لا يحل اتخاذها منه، وروى عن سعيد بن جبير: "وقلبك ونيتك فطهر" وقال أبو العباس: الثياب اللباس.

ويقال: القلب، وعلى هذا ينشد: فَسُلِّى ثِيابِي مِنْ ثِياَبِكِ تَنْسُلِى وذهب بعضهم في تفسير هذه الآية إلى ظاهرها، وقال: إنه أمر بتطهير ثيابه من النجاسات التي لا تجوز معها الصلاة، وهو قول ابن سيرين، وابن زيد. وذكر أبو إسحاق: "وثيابك فقصر" قال: لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسة، فإنه إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن يصيبه ما ينجسه، وهذا قول طاوس. وقال ابن عرفة "معناه: نساءك طهرهن" وقد يكنى عن النساء بالثياب واللباس. قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلَى نِسائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187].

ويكنى عنهن بالإزار، ومنه قول الشاعر:

أَلا أَبْلِغْ أبَا حَفْصٍ رَسُولاً *** فِدًى لَكَ مِنْ أخِي ثِقَةٍ: إِزَارِى

أي أهلي، ومنه قول البراء بن معرور للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة العقبة: "لَنَمْنَعنّكَ مِمّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا" أي نساءنا. قلت: الآية تعم هذا كله، وتدل عليه بطريق التنبيه واللزوم، إن لم تتناول ذلك لفظا فإن المأمور به إن كان طهارة القلب، فطهارة الثوب وطيب مكسبه تكميل لذلك، فإن خبث الملبس يكسب القلب هيئة خبيثة، كما أن خبث المطعم يكسبه ذلك، ولذلك حرم لبس جلود النمور والسباع بنهى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن ذلك في عدة أحاديث صحاح لا معارض لها، لما تكسب القلب من الهيئة المشابهة لتلك الحيوانات، فإن الملابسة الظاهرة تسرى إلى الباطن، ولذلك حرم لبس الحرير والذهب على الذكور لما يكتسب القلب من الهيئة التي تكون لمن ذلك لبسه من النساء وأهل الفخر والخيلاء.

والمقصود: أن طهارة الثوب وكونه من مكسب طيب هو من تمام طهارة القلب وكمالها، فإن كان المأمور به ذلك فهو وسيلة مقصودة لغيرها، فالمقصود لنفسه أولى أن يكون مأموراً به وإن كان المأمور به طهارة القلب وتزكية النفس، فلا يتم إلا بذلك، فتبين دلالة القرآن على هذا وهذا.

وقوله: {أُولِئك الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] عقيب قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لقوم آخرين لم يأتوك يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41].

مما يدل على أن العبد إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله أكسبه ذلك تحريفا للحق عن مواضعه، فإنه إذا قبل الباطل أحبه ورضيه، فإذا جاء الحق بخلافه رده وكذبه إن قدر على ذلك، وإلا حرفه، كما تصنع الجهمية بآيات الصفات وأحاديثها، يردون هذه بالتأويل الذي هو تكذيب بحقائقها، وهذه بكونها أخبار آحاد لا يجوز الاعتماد عليها في باب معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته. فهؤلاء وإخوانهم من الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، فإنها لو طهرت لما أعرضت عن الحق، وتعوضت بالباطل عن كلام الله تعالى ورسوله، كما أن المنحرفين من أهل الإرادة لما لم تطهر قلوبهم تعوّضوا بالسماع الشيطانى عن السماع القرآنى الإيمانى.

قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: "لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله".

فالقلب الطاهر، لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث، لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته، بخلاف القلب الذي لم يطهره الله تعالى، فإنه يتغذى من الأغذية التى تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة. فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض، لا تلائمه الأغذية التى تلائم الصحيح.

ودلت الآية على أن طهارة القلب موقوفة على إرادة الله تعالى، وأنه سبحانه لما لم يرد أن يطهر قلوب القائلين بالباطل، المحرفين للحق، لم يحصل لها الطهارة.

ولا يصح أن تفسر الإرادة هاهنا بالإرادة الدينية، وهى الأمر والمحبة، فإنه سبحانه قد أراد ذلك لهم أمرا ومحبة، ولم يرده منهم كونا فأراد الطهارة لهم وأمرهم بها، ولم يرد وقوعها منهم، لما له في ذلك من الحكمة التى فواتها أكره إليه من فوات الطهارة منهم.

وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتابنا الكبير في القدر.

ودلت الآية على أن من لم يطهر الله قلبه فلا بد أن يناله الخزى في الدنيا والعذاب في الآخرة، بحسب نجاسة قلبه وخبثه. ولهذا حرم الله سبحانه الجنة على من في قلبه نجاسة وخبث، ولا يدخلها إلا بعد طيبه وطهره. فإنها دار الطيبين. ولهذا يقال لهم:
(طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر: 73]. أي ادخلوها بسبب طيبكم. والبشارة عند الموت لهؤلاء دون غيرهم، كما قال تعالى: (الّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجنَّةَ بِمَا كُنْتمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32].

فالجنة لا يدخلها خبيث، ولا من فيه شيء من الخبث. فمن تطهر في الدنيا ولقي الله طاهراً من نجاساته دخلها بغير معوق، ومن لم يتطهر في الدنيا فإن كانت نجاسته عينية، كالكافر، لم يدخلها بحال. وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر في النار من تلك النجاسة، ثم يخرج منها، حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيهَذَّبون وينقَّون من بقايا بقيت عليهم، قصرت بهم عن الجنة، ولم توجب لهم دخول النار، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة.
والله سبحانه بحكمته جعل الدخول عليه موقوفا على الطهارة، فلا يدخل المصلى عليه حتى يتطهر. وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفا على الطيب والطهارة، فلا يدخلها إلا طيب طاهر. فهما طهارتان:

طهارة البدن.

وطهارة القلب.

ولهذا شرع للمتوضئ أن يقول عقيب وضوئه: "أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحّمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ". فطهارة القلب بالتوبة، وطهارة البدن بالماء. فلما اجتمع له طهران صلح للدخول على الله تعالى، والوقوف بين يديه ومناجاته.