إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 02-11-1434هـ


 

متن الدرس

وقال الله تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّما يُرِيدُ اللهُ ليُعَذِّبَهُمْ بِهَا في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُم كَافِرُونَ} [التوبة: 55]. ولم يصب من قال: إن الآية على التقديم والتأخير، كالجرجاني، حيث قال: ينتظم قوله: {في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بعد فصل آخر ليس بموضعه على تأويل: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّما يُرِيدُ اللهُ ليُعَذِّبَهُمْ بِهَا في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة: 55].

وهذا القول يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما. وهو منقطع، واختاره قتادة وجماعة، وكأنهم لما أشكل عليهم وجه تعذيبهم بالأموال والأولاد في الدنيا، وأن سرورهم ولذتهم ونعيمهم بذلك، فروا إلى التقديم والتأخير.

وأما الذين رأوا أن الآية على وجهها ونظمها فاختلفوا في هذا التعذيب، فقال الحسن البصرى: يعذبهم بأخذ الزكاة منها والإنفاق في الجهاد، واختاره ابن جرير، وأوضحه. فقال: العذاب بها إلزامهم بما أوجب الله عليهم فيها من حقوقه وفرائضه، إذ كان يؤخذ منه ذلك، وهو غير طيب النفس، ولا راج من الله جزاء، ولا من الآخذ منه حمدا ولا شكرا، بل على صغار منه وكره. وهذا أيضا عدول عن المراد بتعذيبهم في الدنيا بها، وذهاب عن مقصود الآية.

وقالت طائفة: تعذيبهم بها أنهم يتعرضون بكفرهم لغنيمة أموالهم، وسبى أولادهم فإن هذا حكم الكافر، وهم في الباطن كذلك. وهذا أيضا من جنس ما قبله فإن الله سبحانه أقر المنافقين، وعصم أموالهم وأولادهم بالإسلام الظاهر وتولى سرائرهم، فلو كان المراد ما ذكره هؤلاء لوقع مراده سبحانه من غنيمة أموالهم وسبى أولادهم، فإن الإرادة هاهنا كونية بمعنى المشيئة، وما شاء الله كان ولا بد، وما لم يشأ لم يكن. والصواب، والله أعلم، أن يقال: تعذيبهم بها هو الأمر المشاهد من تعذيب طلاب الدنيا ومحبيها ومؤثريها على الآخرة: بالحرص على تحصيلها، والتعب العظيم في جمعها ومقاساة أنواع المشاق في ذلك، فلا تجد أتعب ممن الدنيا أكبر همه، وهو حريص بجهده على تحصيلها. والعذاب هنا هو الألم والمشقة والتعب، كقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ" وقوله: "إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ" أي يتألم ويتوجع، لا أنه يعاقب بأعمالهم، وهكذا من كانت الدنيا كل همه أو أكبر همه كما قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره من حديث أنس رضي الله عنه: "مَنْ كانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ في قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِىَ رَاغِمَةٌ. وَمَنْ كانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يأْتِهِ مِنَ الدُّنْيا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ". ومن أبلغ العذاب في الدنيا: تشتيت الشمل وتفرق القلوب، وكون الفقر نصب عينى العبد لا يفارقه، ولولا سكرة عشاق الدنيا بحبها لاستغاثوا من هذا العذاب، على أن أكثرهم لا يزال يشكو أو يصرخ منه. وفي الترمذى أيضاً عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "يَقُولُ اللهُ تَبَاركَ وَتَعَالَى: ابْنَ آدَم، تَفَرَّغْ لِعبَادَتِى أَمْلأ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِنْ لا تَفْعَلْ مَلأتُ يَدَيْكَ شُغْلا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ".

وهذا أيضا من أنواع العذاب، وهو اشتغال القلب والبدن بتحمل أنكاد الدنيا ومحاربة أهلها إياه، ومقاساة معاداتهم، كما قال بعض السلف: من أحب الدنيا فليوطن نفسه على تحمل المصائب. ومحب الدنيا لا ينفك من ثلاث: همّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضى، وذلك أن محبها لا ينال منها شيئا إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه، كما في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام: "لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى لهَما ثَالِثا". وقد مثل عيسى ابن مريم عليه السلام محب الدنيا بشارب البحر، كلما ازداد شربا ازداد عطشا.

وذكر ابن أبى الدنيا أن الحسن البصرى كتب إلى عمر بن عبد العزيز "أما بعد: فإن الدنيا دار ظعن، ليست بدار إقامة، إنما أنزل إليها آدم عليه السلام عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، لها في كل حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها. هي كالسم يأكله من لا يعرفه، وهو حتفه فكن فيها كالمداوى جراحه، يحتمى قليلا، مخافة ما يكره طويلا، ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرارة، الخداعة الختَّالة، التى قد تزينت بخدعها، وفتنت بغرورها، وختلت بآمالها، وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلوة، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهى لأزواجها كلهم قاتلة، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى، ونسى المعاد فشَغل بها لُبَّه، حتى زّلت عنها قدمه، فعظمت عليه ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه، وحسرات الفوت. وعاشق لم ينل منها بغيته، فعاش بغُصته، وذهب بكمده، ولم يدرك منها ما طلب، ولم تسترح نفسه من التعب، فخرج بغير زاد، وقدم على غير مهاد. فكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه، وُصِل الرخاء منها بالبلاء، وجُعل البقاء فيها إلى فناء. سرورها مشوب بالحزن، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبرا، ولم يضرب لها مثلا، لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل. فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ وعنها زاجر؟ فما لها عند الله قدر ولا وزن، ولا نظر إليها منذ خلقها. ولقد عرضت على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بمفاتيحها وخزائنها لا تُنقِصُه عند الله جناح بعوضة، فأَبَى أن يقبلها، كره أن يحب ما أبغض خالقُه، أو يرفع ما وضع مليكه. فزواها عن الصالحين اختيارا، وبسطها لأعدائه اغترارا. فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أُكْرِم بها، ونسى ما صنع الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وسلم حين شد الحجر على بطنه".

وقال الحسن أيضا: إن قوما أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخُشب. فأهينوها فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها. وهذا باب واسع. وأهل الدنيا وعشاقها أعلم بما يقاسونه من العذاب وأنواع الألم في طلبها. ولما كانت هي أكبر هَمّ من لا يؤمن بالآخرة، ولا يرجو لقاء ربه، كان عذابه بها بحسب حرصه عليها، وشدة اجتهاده في طلبها.

وإذا أردت أن تعرف عذاب أهلها بها فتأمل حال عاشق فانٍ في حب معشوقة، وكلما رام قربا من معشوقة نأى عنه، ولا يفي له ويهجره ويصل عدوه. فهو مع معشوقة في أنكد عيش، يختار الموت دونه، فمعشوقة قليل الوفاء، كثير الجفاء، كثير الشركاء، سريع الاستحالة، عظيم الخيانة، كثير التلون، لا يأمن عاشقه معه على نفسه ولا على ماله، مع أنه لا صبر له عنه ولا يجد عنه سبيلا إلى سلوة تريحه، ولا وصال يدوم له، فلو لم يكن لهذا العاشق عذاب إلا هذا العاجل لكفي به، فكيف إذا حيل بينه وبين لذاته كلها، وصار معذبا بنفس ما كان ملتذا به على قدر لذته به، التي شغلته عن سعيه في طلب زاده، ومصالح معاده؟،
وسنعود إلى تمام الكلام في هذا الباب في باب ذكر علاج مرض القلب بحب الدنيا إن شاء الله تعالى، إذ المقصود بيان أن من أحب شيئا سوى الله تعالى، ولم تكن محبته له لله تعالى، ولا لكونه معينا له على طاعة الله تعالى: عذب به في الدنيا قبل يوم القيامة. كما قيل: أَنْتَ الْقَتِيلُ بِكلِّ مَنْ أَحْبَبْتَهُ فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ في الْهَوى مَنْ تَصْطَفي فإذا كان يوم المعاد ولّى الحكَم العدل سبحانه كل محب ما كان يحبه في الدنيا. فكان معه: إما منعما أو معذبا. ولهذا: "يُمَثَّلُ لِصاحِبِ المَالِ مَالُهُ شُجَاعاً أَقْرَعَ يَأْخُذُ بِلِهزمَتَيه، يعنى شدقيه، يقُولُ: أنَا مَالُكَ، أَنَا كَنزُكَ، وَيُصَفّحُ لَهُ صَفَائحَ مِنْ نَارٍ يُكْوَى بِهَا جَبِينُهُ وَجَنبهُ وَظَهْرُهُ".

وكذلك عاشق الصور إذا اجتمع هو ومعشوقه على غير طاعة الله تعالى جمع الله بينهما في النار، وعذب كلٌ منهما بصاحبه. قال تعالى: {الأخِلاءُ يَوْمَئذٍ بَعْضهُمْ لِبَعْضٍ عَدُو إلا المُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].

وأخبر سبحانه أن الذين توادوا في الدنيا على الشرك يكفر بعضهم ببعض يوم القيامة، ويلعن بعضهم بعضا ومأواهم النار وما لهم من ناصرين.

فالمحب مع محبوبه دنيا وأخرى. ولهذا يقول الله تعالى يوم القيامة للخلق: "أَلَيْسَ عَدْلا مِنِّى أَنْ أُوَلّى كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا كَانَ يَتَوَلَّى في دَارِ الدُّنْيا؟". وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: "المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبّ". وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهَ يَقُولُ يَا لَيْتَنى اتّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبيلاً يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتّخِذْ فُلاناً خَلِيلا لَقَدْ أَضَلّنِى عَنِ الذكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءنى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان: 27 - 29]. وقال تعالى: {اُحْشُرُوا الّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الجحِيمِ وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَالَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 22 - 25].

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "أزواجهم: أشباههم ونظراؤهم" وقال تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير:7]. فقرن كل شكل إلى شكله، وجعل معه قرينا وزوجا: البر مع البر، والفاجر مع الفاجر.

والمقصود: أن من أحب شيئا سوى الله عز وجل فالضرر حاصل له بمحبوبه: إن وجد وإن فقد، فإنه إن فقده عذب بفراقه وتألم على قدر تعلق قلبه به، وإن وجده كان ما يحصل له من الألم قبل حصوله، ومن النكد في حال حصوله، ومن الحسرة عليه بعد فوته، أضعاف أضعاف ما في حصوله له من اللذة:

فَمَا في الأرْضِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ *** وَإِنْ وَجَدَ الهَوَى حُلْوَ المذَاقِ

تَرَاهُ بَاكِيًا في كلِّ حال *** مَخَافَةَ فُرْقةٍ أَوْ لاشْتِياقِ

فَيَبْكِى إنْ نَأَى شَوْقاً إلَيْهِمْ *** وَيَبْكِى إِنْ دَنَوْا حَذرَ الْفِرَاقِ

فَتَسْخنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التَّلاقي *** وَتَسْخنُ عَيْنُهُ عِنْدَ الْفِرَاقِ

وهذا أمر معلوم بالاستقراء والاعتبار والتجارب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه" فذِكْره: جميع أنواع طاعته، فكل من كان في طاعته فهو ذاكره، وإن لم يتحرك لسانه بالذكر، وكل من والاه الله فقد أحبه وقربه؛ فاللعنة لا تنال ذلك إلا بوجهه، وهى نائلة كل ما عداه.

***