إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 18-10-1434هـ



متن الدرس

الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته، الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته، والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ويتم نعيمهم، فلا يعطيهم في الآخرة شيئا خيراً لهم ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم، ولا أنعم لقلوبهم: من النظر إليه، وسماع كلامه منه بلا واسطة. ولم يعطهم في الدنيا شيئا خيرا لهم ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم من الإيمان به، ومحبته والشوق إلى لقائه، والأنس بقربه، والتنعم بذكره.

وقد جمع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بين هذين الأمرين في الدعاء الذي رواه النسائي والإمام أحمد، وابن حبان في صحيحه وغيرهم، من حديث عمار ابن ياسر: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يدعو به "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضى والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مُضِرَّة، ولا فتنة مضلة. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين".

فجمع في هذا الدعاء العظيم القدر بين أطيب شيء في الدنيا، وهو الشوق إلى لقائه سبحانه، وأطيب شيء في الآخرة، وهو النظر إلى وجهه سبحانه.

ولما كان كمال ذلك وتمامه موقوفا على عدم ما يضر في الدنيا. ويفتن في الدين قال: "في غير ضرّاء مضرة ولا فتنة مضلة".

ولما كان كمال العبد في أن يكون عالما بالحق متبعا له معلماً لغيره، مرشدا له قال:"وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مهتدينَ".

ولما كان الرضى النافع المحصل للمقصود هو الرضى بعد وقوع القضاء لا قبله، فإن ذلك عزم على الرضى، فإذا وقع القضاء انفسخ ذلك العزم، سأل الرضى بعده، فإن المقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه والرضى بعد وقوعه. فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما، كما في المسند وغيره عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "إن من سعادة ابن آدم استخارة الله ورضاه بما قضى الله، وإن من شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله، وسخطه بما قضى الله تعالى".

ولما كانت خشية الله عز وجل رأس كل خير في المشهد والمغيب، سأله خشيته في الغيب والشهادة. ولما كان أكثر الناس إنما يتكلم بالحق في رضاه، فإذا غضب أخرجه غضبه إلى الباطل، وقد يدخله أيضاً رضاه في الباطل، سأل الله عز وجل من توفيقه لكلمة الحق في الغضب والرضى. ولهذا قال بعض السلف: لا تكن ممن إذا رضى أدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب أخرجه غضبه من الحق.

ولما كان الفقر والغنى محنتين وبليتين، يبتلى الله بهما عبده. ففي الغنى يبسط يده، وفي الفقر يقبضها، سأل الله عز وجل القصد في الحالين، وهو التوسط الذي ليس معه إسراف ولا تقتير.

ولما كان النعيم نوعين: نوعا للبدن، ونوعا للقلب، وهو قرة العين، وكماله بدوامه واستمراره، جمع بينهما في قوله "أسألك نعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع".

ولما كانت الزينة زينتين: زينة البدن، وزينة القلب، وكانت زينة القلب أعظمهما قدرا وأجلهما خطرا، وإذا حصلت زينة البدن على أكمل الوجوه في العقبى، سأل ربه الزينة الباطنة فقال: "زيِّنا بِزِينَةِ الإيمَانِ".
ولما كان العيش في هذه الدار لا يبرد لأحد كائنا من كان، بل هو محشو بالغصص والنكد، ومحفوف بالآلام الباطنة والظاهرة، سأل برد العيش بعد الموت.

والمقصود: أنه جمع في هذا الدعاء بين أطيب ما في الدنيا، وأطيب ما في الآخرة.

فإن حاجة العباد إلى ربهم في عبادتهم إياه وتألههم له، كحاجتهم إليه في خلقه لهم، ورزقه إياهم، ومعافاة أبدانهم، وستر عوراتهم، وتأمين روعاتهم، بل حاجتهم إلى تألهه ومحبته وعبوديته أعظم، فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم. ولا صلاح لهم ولا نعيم ولا فلاح ولا لذة ولا سعادة بدون ذلك بحال.

ولهذا كانت "لا إله إلا الله" أحسن الحسنات، وكان توحيد الإلهية رأس الأمر، وأما توحيد الربوبية الذي أقر به المسلم والكافر، وقرره أهل الكلام في كتبهم، فلا يكفي وحده، بل هو الحجة عليهم، كما بين ذلك سبحانه في كتابه الكريم في عدة مواضع، ولهذا كان حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، كما في الحديث الصحيح الذي رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "أتدرى ما حق الله على عباده"؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. أتدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟" قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار"، ولذلك يحب سبحانه عباده المؤمنين الموحدين ويفرح بتوبتهم، كما أن في ذلك أعظم لذة العبد وسعادته ونعيمه، فليس في الكائنات شيء غير الله سبحانه يسكن القلب إليه، ويطمئن به ويأنس به، ويتنعم بالتوجه إليه، ومن عبد غيره سبحانه وحصل له به نوع منفعة ولذة، فمضرته بذلك أضعاف أضعاف منفعته، وهو بمنزلة أكل الطعام المسموم اللذيذ، وكما أن السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة غيره سبحانه لفسدتا، كما قال تعالى: {لَوْ كانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].

فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله تعالى فسد فسادا لا يرجى صلاحه إلا بأن يخرج ذلك المعبود من قلبه، ويكون الله تعالى وحده إلهه ومعبوده الذي يحبه ويرجوه، ويخافه ويتوكل عليه وينيب إليه.

الوجه الثالث: أن فقر العبد إلى أن يعبد الله سبحانه وحده لا يشرك به شيئا ليس له نظير فيقاس به، ولكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الغذاء والشراب والنفس، فيقاس بها، ولكن بينهما فروق كثيرة، فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بإلهه الحق الذي لا إله إلا هو، فلا يطمئن إلا بذكره، ولا يسكن إلا بمعرفته وحبه، وهو كادح إليه كدحا فملاقيه، ولا بد له من لقائه، ولا صلاح له إلا بتوحيد محبته وعبادته وخوفه ورجائه، ولو حصل له من اللذات والسرور بغيره ما حصل فلا يدوم له ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص ويتنعم بهذا في حال، وبهذا في حال، وكثيرا ما يكون ذلك الذي يتنعم به هو أعظم أسباب ألمه ومضرته.

وأما إلهه الحق فلابد له منه في كل وقت وفي كل حال، وأينما كان فنفس الإيمان به ومحبته وعبادته وإجلاله وذكره هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، ودلت عليه السنة والقرآن، وشهدت به الفطرة والجنان، لا كما يقوله من قل نصيبه من التحقيق والعرفان، وبُخِس حظه من الإحسان: إن عبادته وذكره وشكره تكليف ومشقة، لمجرد الابتلاء والامتحان، أو لأجل مجرد التعويض بالثواب المنفصل كالمعاوضة بالأثمان، أو لمجرد رياضة النفس وتهذيبها ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان، كما في مقالات من بُخِسَ حظه من معرفة الرحمن، وقل نصيبه من ذوق حقائق الإيمان، وفرح بما عنده من زبَدَ الأفكار وزُبالة الأذهان، بل عبادته ومعرفته وتوحيده وشكره قرة عين الإنسان، وأفضل لذة للروح والقلب والجنان، وأطيب نعيم ناله من كان أهلا لهذا الشأن، والله المستعان، وعليه التكلان.

وليس المقصود بالعبادات والأوامر المشقة والكلفة بالقصد الأول، وإن وقع ذلك ضمنا وتبعا في بعضها، لأسباب اقتضته لابد منها، هي من لوازم هذه النشأة.

فأوامره سبحانه، وحقه الذي أوجبه على عباده، وشرائعه التي شرعها لهم هي قرة العيون ولذة القلوب، ونعيم الأرواح وسرورها، وبها سعادتها وفلاحها، وكمالها في معاشها ومعادها، بل لا سرور لها ولا فرح ولا لذة ولا نعيم في الحقيقة إلا بذلك، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لمِا في الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحمةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفضْلِ اللهِ وَبِرحمتِه فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيٌر مِمَّا يجمعُونَ} [يونس: 57- 58].

قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه "فضل الله: القرآن، ورحمته: أن جعلكم من أهله" وقال هلال بن يساف: "بالإسلام الذي هداكم إليه. وبالقرآن الذي علمكم إياه، هو خير مما تجمعون: من الذهب والفضة"، وكذلك قال ابن عباس والحسن وقتادة: "فضله: الإسلام، ورحمته: القرآن" وقالت طائفة من السلف: "فضله: القرآن، ورحمته: الإسلام".

والتحقيق: أن كلا منهما فيه الوصفان، الفضل والرحمة، وهما الأمران اللذان امتن الله بهما على رسوله فقال: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى: 52].

والله سبحانه إنما رفع من رفع بالكتاب والإيمان. ووضع من وضع بعدمهما.

***