فتح المجيد شرح كتاب التوحيد 03-03-1439هـ


التاريخ:3/3/1439 هـ.

من قول المؤلف: "قوله: "وقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ..﴾

إلى قول المؤلف: "قوله: "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " من أحب في الله"

"قوله: وقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾" هذه الآية في سياق الهجرة والبيان أن من آثر بلده وما عنده من الأموال أو آباؤه وأبناؤه وأزواجه على الهجرة في سبيل الله فإن الله توعد تارك الهجرة من أجل هذه الثمانية بالعذاب وسماه فاسقاً ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24] – والهجرة هي: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام فراراً بالدين - وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ۝ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ۝ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ۝ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 97] فمن يهاجر في سبيل الله الله يعوضه خيراً كثيراً ويظهر دينه، ومن مات في طريق الهجرة فأجر الهجرة يحصل له وهذا من فضل الله تعالى؛ فالهجرة تجب على من لا يستطيع إظهار دينه في بلده الكفر؛ وقد هاجر بعض الصحابة هجرتين: الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة.

 

"أمر الله نبيه صلي الله عليه وسلم أن يتوعد من أحب أهله وماله وعشيرته وتجارته ومسكنه فآثارها، أو بعضها على فعل ما أوجبه الله عليه من الأعمال التي يحبها الله تعالى ويرضاها، كالهجرة والجهاد ونحو ذلك. قال العماد ابن كثير -رحمه الله تعالى-: أي إن كانت هذه الأشياء ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا﴾ أي انتظروا ماذا يحل بكم من عقابه. روى الإمام أحمد وأبو داود- واللفظ له- من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم." المقصود: إذا انشغلتم بالزرع والرعاية البقر بدلاً عن الخيل في الجهاد في سبيل الله وتركتم الجهاد، فانتظروا العقوبة، وهي أن يسلط الله عليكم إهانة بتسلط الكفار عليكم حتة ترجعوا إلى دينكم؛ فصار ترك الهجرة كترك الدين. "فلا بد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده، فيحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه، ويوالي فيه ويعادي فيه، ويتابع رسوله صلي الله عليه وسلم كما تقدم في آية المحنة ونظائرها." المحبة والعداوة لله وفي الله لا من أجل الدنيا ولا مصاحبة ولا صداقة؛ فالمسلم بوالي والعادي في الله ومن أجل الله؛

"قوله: "وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين". أخرجاه" أي: البخاري ومسلم." قال تعالى ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31] فتقديم الرسول ﷺ على غيره هذه علامة الإيمان. "قوله: "لا يؤمن أحدكم" أي الإيمان الواجب، والمراد كماله، حتى يكون الرسول أحب إلى العبد من ولده ووالده والناس أجمعين، بل ولا يحصل هذا الكمال إلا بأن يكون الرسول أحب إليه من نفسه، كما في الحديث: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال: والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي. فقال: الآن يا عمر." رواه البخاري." فلما بينه الرسول ﷺ لعمر تقبله عمر وبادر إليه. "فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويعرض لعقوبة فقد صدق؛ وإن أراد أن المنفي الكمال المستحب، فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله صلي الله عليه وسلم. قاله شيخ الإسلام رحمه الله." أن الكمال نوعان: كمال واجب وكمال مستحب، والمراد هنا: الكمال الواجب في تقديم محبة الرسول ﷺ على غيره؛ والمسلم قد يكون عند نقص كمال وقد يكون أشد نقصاً من ذلك. "فمن ادعى محبة النبي صلي الله عليه وسلم بدون متابعته وتقديم قوله على قول غيره فقد كذب، كما قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول صلي الله عليه وسلم، لكن كل مسلم يكون محبا بقدر ما معه من الإسلام، وكل مسلم لا بد أن يكون مؤمنا وإن لم يكن مؤمنا الإيمان المطلق؛ لأن ذلك لا يحصل إلا لخواص المؤمنين." فمن قدم محبة الرسول ﷺ على غيره فهو صادق في مخبته، ومن قدم محبة غيره عليه فهو كاذب في محبته له ﷺ.

"قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل، لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئا فشيئا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين ولا إلى الجهاد; ولو شككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا؛ إذ ليس عندهم من علم اليقين ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، فهؤلاء إن عوفوا من المحنة ماتوا ودخلوا الجنة; وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق". انتهى." قال تعالى ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وهذه متوقع حصول الإيمان فيدخل في قلوبهم شيئاً فشيئاً حتى يصل إل قرب كمال الإيمان، وكثير من الناس إيمانهم ناقص فهم على خطر كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: 11] فمن لم يكمل إيمانه قد يعرض على الفتن وقد يسلمه منها إن أراده. "وفي هذا الحديث: أن الأعمال من الإيمان؛ لأن المحبة عمل القلب." الإيمان عند أهل السنة: قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ قال تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2] وفي حديث: "من رأى منكم منكراً.." وفيه: "وذلك أضعف الإيمان" في الإيمان يزيد بكثرة الإعمال وينقص حتى يكون أصغر من حبة خردل كما في رواية: "وليس بعد ذلك حبة خردل من إيمان" أو كما قال ﷺ. "وفيه: أن محبة الرسول واجبة تابعة لمحبة الله لازمة لها؛ فإنها محبة لله ولأجله، تزيد بزيادة محبة الله في قلب المؤمن وتنقص بنقصها، وكل من كان محبا لله فإنما يحب في الله ولأجله كما يحب الإيمان والعمل الصالح. وهذه المحبة ليس فيها شيء من شوائب الشرك كالاعتماد عليه ورجائه في حصول مرغوب منه أو دفع مرهوب منه. وما كان فيها ذلك فمحبته مع الله لما فيها من التعلق على غيره والرغبة إليه من دون الله، فبهذا يحصل التمييز بين المحبة في الله ولأجله، التي هي من كمال التوحيد، وبين المحبة مع الله التي هي محبة الأنداد من دون الله، لما يتعلق في قلوب المشركين من الإلهية التي لا تجوز إلا لله وحده." فمحبة الرسول ﷺ واجبة لا مستحبة؛ والمشركون يحبون الله لكن يحبون معه غيره؛ فمحبتهم مشتركة؛ والمؤمنون يحبون الله محبة خالصة.

"قوله: "ولهما عنه - أي البخاري ومسلم، عن أنس رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار." وفي رواية: "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله." إلخ" فالإيمان له حلاوة وله ذوق، وهو حلو؛ بل، أحلى شيء هو الإيمان – وحلاوة الإيمان لها ثلاث خصال، وحلاوة الإيمان مرتبة عالية من الإيمان؛ فالشخص قد يكون مؤمناً ولكنه لا يجد هذه حلاوته إلا بعد هذه الخصال الثلاثة. "قوله: "ثلاث" أي ثلاث خصال. قوله: "من كن فيه" أي وجدت فيه تامة. قوله: "وجد بهن حلاوة الإيمان" الحلاوة هنا هي التي يعبر عنها بالذوق لما يحصل به من لذة القلب ونعيمه وسروره وغذائه، وهي شيء محسوس يجده أهل الإيمان في قلوبهم.

قال السيوطي -رحمه الله- في التوشيح: "وجد حلاوة الإيمان" فيه استعارة تخييلية، شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشيء، وأضافه إليه"." الإيمان له حلاوة حقيقة ولا يشبه بشيء.

"وقال النووي: "معنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشاق، وإيثار ذلك على أغراض الدنيا، ومحبة العبد لله بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك الرسول صلي الله عليه وسلم"." المطيع يجد لذة وحلاوة في الطاعة ولا يجدها في غيرها؛ فلا يحس بالتعب فيها، ولذلك كان النبي ﷺ يقوم قيام الليل حتى تفطرت قدماه ونسي هذا التعب للذة الطاعة.

"قال يحيى بن معاذ: "حقيقة الحب في الله: أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء". قوله: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" يعني بالسوي: ما يحبه الإنسان بطبعه، كمحبة الولد والمال والأزواج ونحوها، فتكون "أحب" هنا على بابها. وقال الخطابي: " المراد بالمحبة هنا حب الاختيار لا حب الطبع كذا قال. وأما المحبة الشركية التي قد تقدم بيانها، فقليلها وكثيرها ينافي محبة الله ورسوله". وفي بعض الأحاديث." نعم، محبة عبادة أقوى من محبة طبيعية!

"قوله: "أحبوا الله بكل قلوبكم" فمن علامات محبة الله ورسوله: أن يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه الله، ويؤثر مرضاته على ما سواه، ويسعى في مرضاته ما استطاع; ويبعد عما حرمه الله ويكرهه أشد الكراهة، ويتابع رسوله ويمتثل أمره ويترك نهيه، كما قال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾، فمن آثر أمر غيره على أمره وخالف ما نهى عنه، فذلك عَلَم على عدم محبته لله ورسوله؛ فإن محبة الرسول من لوازم محبة الله، فمن أحب الله وأطاعه أحب الرسول وأطاعه. ومن لا فلا; كما في آية المحنة ونظائرها. والله المستعان.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: أخبر النبي صلي الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كُنّ فيه وجد حلاوة الإيمان؛ لأن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له. فمن أحب شيئا واشتهاه، إذا حصل له مراده؛ فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى. قال: فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح تتبع كمال محبة العبد لله، وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة وتفريغها، ودفع ضدها. فتكميلها أن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهم؛ فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.

قلت: ومحبة الله تعالى تستلزم محبة طاعته؛ فإنه يحب من عبده أن يطيعه. والمحب يحب ما يحبه محبوبه ولا بد.

ومن لوازم محبة الله أيضا: محبة أهل طاعته، كمحبة أنبيائه ورسله والصالحين من عباده، فمحبة ما يحبه الله ومن يحبه الله من كمال الإيمان، كما في حديث ابن عباس الآتي. قال: وتفريغها. أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، قال: ودفع ضدها أن يكره ضد الإيمان كما يكره أن يقذف في النار". انتهى.

قوله: "أحب إليه مما سواهما" فيه جمع ضمير الله تعالى وضمير رسوله صلي الله عليه وسلم، وفيه قولان:

أحدهما: أنه ثنى الضمير هنا إيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة؛ فإنها وحدها لاغية. وأمر بالإفراد في حديث الخطيب إشعارا بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية؛ إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم.

الثاني: حمل حديث الخطيب على الأدب والأولى، وهذا هو الجواز.

وجواب ثالث: وهو أن هذا وارد على الأصل، وحديث الخطيب ناقل فيكون أرجح.      

قوله: "كما يكره أن يقذف في النار" أي يستوي عنده الأمران. وفيه رد على الغلاة الذين يتوهمون أن صدور الذنب من العبد نقص في حقه مطلقا وإن تاب منه. والصواب: أنه إن لم يتب كان نقصا وإن تاب فلا، ولهذا كان المهاجرون والأنصار -رضي الله عنهم- أفضل هذه الأمة، مع كونهم في الأصل كفارا فهداهم الله إلى الإسلام، والإسلام يمحو ما قبله، وكذلك الهجرة. كما صح الحديث بذلك." يوجد من يقول: إن من تاب ما زال فيه نق بسبب ذنبه، وهذا خطأ؛ والصواب: أن من تاب من الذنوب: من لا ذنب له؛ فكان كثيراً من الصحابة كفاراً قبل الإسلام ثم صاروا أفض الناس وصاروا مهاجرين في سبيل الله.

"قوله: "وفي رواية: لا يجد أحد" هذه الرواية أخرجها البخاري في الأدب من صحيحه. ولفظها: "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" وقد تقدم أن المحبة هنا عبارة عما يجده المؤمن من اللذة والبهجة والسرور والإجلال والهيبة ولوازم ذلك. قال الشاعر:

أهابك إجلالا وما بك قدرة ... عليّ ولكن ملء عين حبيبها."

بعض الفوائد من الدرس:

  1. ما المراد بإظهار الدين؟ الإظهار الدين هو أن تستطيع الدعوة إلى الله والإنكار على الكفار وكفرهم؛ وليس المراد بإظهار الدين أن تقيم الصلاة وتصوم فقط.