فتح المجيد شرح كتاب التوحيد 18-02-1439هـ


التاريخ: 18/2/1439 هـ

من قول المؤلف: "باب "قول الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾

إلى قول المؤلف: وقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ..﴾

قال المؤلف: "باب "قول الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ [البقرة: 165]"

محبة الله أعظم أنواع العبادة وأعلى درجاتها؛ فالمؤمنون يحبون الله نحبة خالصة والمشركون يحبون الله ويحبون معه غيره؛ فمحبتهم ليست خالصة، بل هي محبة مشتركة بين الله ومعبوداتهم. "لما كانت محبته سبحانه هي أصل دين الإسلام الذي يدور عليه قطب رحاه، فبكمالها يكمل، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان، نبه المصنف على ذلك بهذه الترجمة." والشرك أعظم الظلم؛ قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ۝ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ قيل (تقطعت بهم الأسباب) أنها في المحبة، فتبرأ المعبودات من الملائكة والأولياء والصالحين من الذين كانوا يعبدونهم يوم القيامة، فيرون أعمالهم في الدنيا حسرات؛ كانت لهم أعمال ولكن صارت حسرات؛ لأن معهم شرك والشرك يفسد أعمالهم؛ فما هم بخارجين من النار خالدون مخلدون فيها، وهذه هي العاقبة للمشركين؛ أما المؤمنون العصاة الذين إذا دخلوا النار بسبب معاصيهم يخرجون منها بعد أن محصوا؛ لأن الجنة لا يدخلها إلا طيب؛ والمشركون أحبوا ولكن أحبوا مع الله غيره وهذا شرك أكبر، ومحبة المؤمنين محبة لله وفي الله ولله، ومحبة المشركين محبة مع الله غيره.

قال ابن القيم في النونية:

وعبــادة الرحمن غــايــة حــبــه       *      مــع ذل عــابــده هــما قــطــبــان

وعليهما فلك العبــادة دائـر      *      مــا دار حــتــى قــامت القـطبان

ومــداره بالأمــر أمــر رســولـه      *      لا بالهـوى والنفـس والــشيــطــان

"قال في شرح المنازل" – منازل السائرين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لأبي إسماعيل الهروي، والشرح: مدارج السالكين لابن القيم - "أخبر تعالى أن من أحب من دون الله شيئا كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية؛ فإن أحدا من أهل الأرض لا يثبت هذا الند، بخلاف ند المحبة؛ فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادا في الحب والتعظيم. ثم قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ﴾ وفي تقدير الآية قولان: أحدهما: والذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم التي يحبونها ويعظمونها من دون الله.

وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ مباهاة ومضاهاة للحق بالأنداد. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ﴾ من الكفار لأوثانهم. ثم روي عن ابن زيد قال: هؤلاء المشركون أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله يحبونهم كما يحب الذين آمنوا بالله، والذين آمنوا أشد حبا لله من حبهم آلهتهم". انتهى.

والثاني: والذين آمنوا أشد حبا لله من المشركين بالأنداد لله، فإن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها، والمحبة الخالصة أشد من المشتركة. والقولان مرتبان على القولين في قوله تعالى: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ فإن فيها قولين أيضا: أحدهما: يحبونهم كما يحبون الله، فيكون قد أثبت لهم محبة الله، ولكنها محبة أشركوا فيها مع الله تعالى أندادهم. والثاني: أن المعنى يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله، ثم بين تعالى أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم." وما أحد ينكر توحيد الربوبية لأن الله هو الخاق الرازق المحيي والمميت لا ينكره لا مؤمن ولا كافر، ولكن محبة المؤمنين خالصة ومحبة المشركين مشتركة "وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يرجح القول الأول، ويقول: إنما ذموا بأن شرّكوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوها لله كمحبة المؤمنين له، وهذه التسوية المذكورة في قوله تعالى: حكاية عنهم، وهم في النار أنهم يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب: ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ومعلوم أنهم ما سووهم برب العالمين في الخلق والربوبية، وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم، وهذا أيضا هو العدل المذكور في قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم."

"وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ وهذه تسمى آية المحنة." هذه آية المحنة والامتحان والاختبار يمتحنهم الله بها؛ فالذي يحب الله يتبع الرسول ﷺ لأن الرسول ﷺ يدل على الله يبين الطريق الموصل إليه؛ أما غلاة الصوفية زعموا أنهم وصلوا إلى منزلة المحبة وأنهم وصل منزلة العارفين فزين لهم الشيطان وتدرج بهم حتى عبدوا مع الله غيره ويسمونهم الأقطاب والأوتاد يصرفون في الكون مع الله، فأشركوا في الربوبية. "قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله تعالى آية المحنة ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها. فدليلها وعلامتها: اتباع الرسول صلي الله عليه وسلم، وفائدتها وثمرتها: محبة المرسل لكم، فما لم تحصل منكم المتابعة فمحبتكم له غير حاصلة، ومحبته لكم منتفية." لا طريقة إلى الله إلا طريقة الرسول ﷺ واتباعه؛ فإنه هو مبلغ عن الله، ومن يزعم أنه يستغني عن الرسول ﷺ لن يصل؛ وغلاة الصوفية يزعمون أنهم يستغنون عن الرسول وأنهم يأخذون عن الله مباشرة؛ وهل يستغني أحد عن الرسل والله أرسلهم؟ والدليل على محبة الله: اتباع الرسول ﷺ وثمرتها: محبة الله والمغفرة منه.

"وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾" لا أحد يضمن على نفسه دينه، فكان إبراهيم يخاف على نفسه وبنيه ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35] وقد تحققت الآية في أبي بكر وأصحابه أيام الردة حينما ارتدت بعض القبائل عن الإسلام فحاربهم أبو بكر وجاء قوم بعدهم خير منهم.

"ذكر لها أربع علامات:

إحداها: أنهم أذلة على المؤمنين. قيل: معناه أرقاء رحماء مشفقين عاطفين عليهم، فلما ضمّن "أذلة" هذا المعنى عداه بأداة "على". قال عطاء -رحمه الله-: للمؤمنين كالولد لوالده وكالعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته، ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾

العلامة الثالثة: الجهاد في سبيل الله بالنفس واليد والمال واللسان. وذلك تحقيق دعوى المحبة.

العلامة الرابعة: أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم. وهذه علامة صحة المحبة. فكل محب أخذه اللوم على محبوبه فليس بمحب على الحقيقة. وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾" الوسيلة هي القربة، سميت وسيلة لأنها توصل إلى الله "فذكر المقامات الثلاثة: الحب. وهو ابتغاء القرب إليه، والتوسل إليه بالأعمال الصالحة. والرجاء والخوف يدل على أن ابتغاء الوسيلة أمر زائد على رجاء الرحمة وخوف العذاب، ومن المعلوم قطعا أنه لا يتنافس إلا في قرب من يحب قربه، وحب قربه تبع لمحبة ذاته; بل محبة ذاته أوجبت محبة القرب منه. وعند الجهمية والمعطلة: ما من ذلك كله شيء فإنه عندهم لا تقرب ذاته من شيء، ولا يقرب من ذاته شيء، ولا يحب، فأنكروا حياة القلوب، ونعيم الأرواح وبهجة النفوس، وقرة العيون وأعلى نعيم الدنيا والآخرة. ولذلك ضربت قلوبهم بالقسوة وضرب دونهم ودون الله حجاب على معرفته ومحبته; فلا يعرفونه ولا يحبونه ولا يذكرونه إلا عند تعطيل أسمائه وصفاته، فذكرهم أعظم آثامهم وأوزارهم; بل يعاقبون من يذكره بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله ويرمونهم بالأدواء التي هم أحق بها وأهلها، وحسب ذي البصيرة وحياة القلب ما يرى على كلامهم من القسوة والمقت والتنفير عن محبة الله تعالى ومعرفته وتوحيده والله المستعان.

وقال -رحمه الله تعالى- أيضا: لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها. وأجمع ما قيل في ذلك: ما ذكره أبو بكر الكتاني عن الجنيد.

قال أبو بكر: "جرت مسألة في المحبة بمكة - أعزها الله في أيام الموسم- فتكلم الشيوخ فيها; وكان الجنيد أصغرهم سنا، فقالوا: هات ما عندك يا عراقي، فأطرق رأسه ودمعت عيناه; ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه; أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفا شرابه من كأس مودته، وانكشف له الحياء من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله; وإن سكن فمع الله، فهو لله وبالله ومع الله. فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جبرك الله يا تاج العارفين"."

"وذكر رحمه الله تعالى: أن الأسباب الجالبة للمحبة عشرة:" أي: أسباب تحقيق محبة الله.

  1. "أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به." وتلاوة القرآن هي أعظم أنواع الذكر.
  2. "الثاني: التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض." كما في الحديث: (وما يتقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه..)
  3. "الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر هذا." ﴿إلا بذكر الله تطمئن القلوب﴾
  4. "الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى." وهذا تقديم محبة الله على محبة نفسك ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾
  5. "الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها." التأمل في أسماء الله وصفاته يطمئن به القلب ويزيد الإيمان.
  6. "السادس: مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة." هذا إذا رأيت نعم الله تزداد المحبة له – جبلت القلوب على محبة من أحسن إليها ﴿وما لكم من نعمة فمن الله﴾
  7. "السابع: - وهو أعجبها- انكسار القلب بين يديه." والانكسار هو الخضوع.
  8. "الثامن: الخلوة وقت النزول الإلهي، وتلاوة كتابه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة." الخلوة مع الله في ثلث الأخير من الليل ينزل الله إلى سماء الدينا كما يشاء، كما يليق به، نؤمن ب نزوله ولا نعلم كيفيته؛ وقت الدعاء والاستغفار ﴿والاسحار هم يستغفرون﴾.
  9. "التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيدا لحالك ومنفعة لغيرك." المجالسة لها دور كبير في محبة الله؛ فمجالسة العلماء والصالحين يزيد الإيمان والعلم. أما جلساء السوء يزيدون شراً، وإذا اردت أن تعرف رجلاً فانظر إلى جليسه. أما "ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام" تأمل كلامك؛ لأنك إذا نطقت صرت أسيراً له.
  10. "العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل." ابتعد عن أسباب الغفلة. "فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة، ودخلوا على الحبيب."