فتح المجيد شرح كتاب التوحيد 11-02-1439هـ


من قول المؤلف: "وقوله: النائحة إذ لم تتب قبل موتها"

إلى قول المؤلف: قوله تعالى ﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ﴾

قال المؤلف:

"وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة، وعليها سربال من قطران ودرع من جرب." رواه مسلم." النائحة هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، ونشق ثيابها، للويل على موت الميت، وهذه من أمور الجاهلية؛ وعلى المؤمن أن يصبر ويحتسب الأجر عند المصيبة ولا يجزع ولا يقول إلا خيراً؛ فهو يلتقي البشارة بالثواب والأجر من الله كما قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۝ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 155-157] الابتلاء بالأنفس أي: موتها، وكلنا لله وكلنا راجعون إلى الله والمصائب تجري، ولكن المؤمن يقابلها بالصبر والاحتساب، ولا يقول إلا ما يرضي الرب؛ فالله لا يعذب الشخص على حزن القلب ودمع العين ولكن الله يعذبه على ما يجري على لسانه؛ فمن لا يصبر له مصيبتان: المصيبة التي ابتلي بها ومصيبة بالعذاب وفوات الأجر. "قوله: "والنائحة إذا لم تتب قبل موتها" فيه تنبيه على أن التوبة تكفر الذنب وإن عظم، هذا مجمع عليه في الجملة، ويكفر أيضا بالحسنات الماحية والمصائب، ودعاء المسلمين بعضهم لبعض، وبالشفاعة بإذن الله، وعفو الله عمن شاء ممن لا يشرك به شيئا. وفي الحديث عن ابن عمر مرفوعا: " إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ". رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان." فالله يغفر الذنوب بالتوبة وجعل مكفراتها كثيرة: أعظمها: التوبة، ومنها: الحسنات الماحية، والمصائب – فهي خير للمؤمن – ودعاء المسلمين له، والشفاعة يوم القيامة؛ ولابن حجر العسقلاني كتاب في الكبائر ذكر فيه سبعين كبيرة مع مكفراتها؛ وكذلك ابن حجر الهيثمي له كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر). وباب التوبة مفتوح إلى يوم القيامة؛ أما بالنسبة إلى الأفراد فباب التوبة مفتوح حتى بلغت النفس الحلقوم.

 

"قال: ولهما عن زيد بن خالد قال: "صلى لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب." صلى لنا، أي: صلى بنا؛ والسماء: المطر من السماء؛ وفي الحديث: أن الله يتكلم كما يليق جلاله؛ وفيه: التعليم بالسؤال والجواب. "قوله: "بالحديبية" بالمهملة المضمومة وتخفيف يائها وتثق." هي على طرف (التنعيم) اليوم. "قوله: "أصبح من عبادي" الإضافة هنا للعموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر كقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾" والمراد بالعباد هنا المؤمنون والكفار؛ لأن الكافر عبد لله طوعاً. "قوله: "مؤمن بي وكافر" إذا اعتقد أن للنوء تأثيرا في إنزال المطر فهذا كفر؛ لأنه أشرك في الربوبية، والمشرك كافر. وإن لم يعتقد ذلك فهو من الشرك الأصغر؛ لأنه نسب نعمة الله إلى غيره، ولأن الله لم يجعل النوء سببا لإنزال المطر فيه، وإنما هو فضل من الله ورحمة يحبسه إذا شاء وينزله إذا شاء. ودل هذا الحديث على أنه لا يجوز لأحد أن يضيف أفعال الله إلى غيره ولو على سبيل المجاز." فنسبة المطر إلى النجوم كفر وشرك - فتجب نسبة الأمور إلى الله؛ لأنه هو الذي يحدثها، أما النجوم إنما هي مسخرات لأمره. وإذا جرى على اللسان شيء من نسبة النعمة إلى غير الله فهو من الشرك الأصغر، وفلا يجوز إضافتها إلى المخلوق حتى من باب المجاز؛ لأن هذا عقيدة؛ والتصرف في الكلام في هذا فهو من الوسائل إلى الشرك. وإن قيل (مطرنا في نجم كذا وكذا) فلا بأس؛ لأن (في) ظرفية، أما إذا قيل: (مرنا بنجم كذا وكذا) لا يجوز؛ لأن الباب سببية.

 

"وفي هذا الحديث: إن نعم الله لا يجوز أن تضاف إلا إليه وحده، وهو الذي يحمد عليها، وهذه حال أهل التوحيد. قوله: "وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا" إلى آخره، تقدم ما يتعلق بذلك. قال المصنف -رحمه الله-: "وفيه التفطن للكفر في هذا الموضع". يشير إلى أن نسبة النعمة إلى غير الله كفر، ولهذا قطع بعض العلماء بتحريمه، وإن لم يعتقد تأثير النوء بإنزال المطر; فيكون من كفر النعم، لعدم نسبتها إلى الذي أنعم بها، ونسبتها إلى غيره، كما سيأتي في قوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا﴾" نسبة الأمور إلى الله توحيد، ونسبة الأمور إلى غيره شرك؛ وأهل التوحيد هم الذين يحرصون على سلامة عقيدتهم، وهذا يحتاج إلى تعلمها حتى لا يقع فيما يخالفها.

 

"قوله: "ولهما من حديث ابن عباس بمعناه، وفيه: قال بعضهم: "لقد صدق نوء كذا وكذا. فأنزل الله هذه الآيات ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ وبلفظه عن ابن عباس قال: "مطر الناس على عهد النبي صلي الله عليه وسلم، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمة الله. وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا ". فقال: فنزلت هذه الآية: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾". الله يقسم بما يشاء من خلقه وليس للخلق أن يقسم إلا بالله، وظاهر سياق الآية أن المراد بالنجوم هنا: نزول القرآن عل النبي ﷺ منجماً - أي مفرقاً - قال تعالى ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ والكتاب المكنون هو اللوح المحفوظ فيه القرآن الذي هو كلام الله المنزل ليس بمخلوق. واختلف العلماء في (لا) في ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ والظاهر أنها لام صلة للتأكيد في الكلام؛ وقيل: إنها لام نافية، أي: ليس الأمر على ما تزعمون من عقائد الجاهلية أشار إليه الشارح: "هذا قسم من الله عز وجل يقسم بما يشاء من خلقه على ما شاء. وجواب القسم ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ فتكون "لا" صلة لتأكيد النفي; فتقدير الكلام: ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر، أو كهانة، بل هو قرآن كريم. قال ابن جرير: قال بعض أهل العربية: معنى قوله: " ﴿فَلا أُقْسِمُ﴾ فليس الأمر كما تقولون، ثم استؤنف القسم بعد فقيل: أقسم بمواقع النجوم. قال ابن عباس: يعني نجوم القرآن، فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقا في السنين بعد، ثم قرأ ابن عباس هذه الآية." وفي هذا نظر، وللشيخ محمد بن إبراهيم رسالة في كيفية نزول القرآن "ومواقعها: نزولها شيئا بعد شيء. وقال مجاهد: مواقع النجوم: مطالعها ومشارقها. واختاره ابن جرير. وعلى هذا فتكون المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه- وهو القرآن- من وجوه:

أحدها: أن النجوم جعلها الله يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وآيات القرآن يهتدى بها في ظلمات الغي والجهل، فتلك هداية في الظلمات الحسية، والقرآن هداية في الظلمات المعنوية، فجمع بين الهدايتين مع ما في النجوم من الزينة الظاهرة، وفي القرآن من الزينة الباطنة، ومع ما في النجوم من الرجوم للشياطين، وفي القرآن من رجوم شياطين الجن والإنس. والنجوم آياته المشهودة العيانية، والقرآن آياته المتلوة السمعية، مع ما في مواقعها عند الغروب من العبرة والدلالة على آياته القرآنية ومواقعها عند النزول. ذكره ابن القيم رحمه الله.

وقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ قال ابن كثير: أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم به عليه."

 

"وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " اختلف المفسرون في هذا; فقيل: هو اللوح المحفوظ، والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة، وهو المذكور في قوله: ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ ويدل على أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله: ﴿لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ﴾.." اختلفوا في هل يمس المصحف بدون حاجز؟ والآية تدل بالإشارة على أن المصحف لا يمسه إلا من هو على الطهارة من الحدث؛ لأن اللفظ عام، وورد فيه الحديث: (أن لا يمس القرآن إلا طاهر) "قال ابن القيم -رحمه الله-: " وذكر التنزيل مضافا إلى ربوبيته للعالمين المستلزمة لملكه لهم وتصرفه فيهم، وحكمه عليهم، وإحسانه إليهم، وإنعامه عليهم، وأن من هذا شأنه مع الخلق كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتركهم سدى، ويدعهم هَمَلًا، ويخلقهم عبثا. لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم؟ فمن أقر بأنه رب العالمين أقر بأن القرآن تنزيله على رسوله. واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به، وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق، وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس. وذلك إنما تكون لخواص العقلاء." فتوحيد الربوبية يستلزم أن الله ينزل إليهم ما يهتدون به من الوحي يعرفون به الحق من الباطل؛ والقرآن أعظم معجزات النبي ﷺ وهو معجزته الخالدة الباقية.

 

"قوله: ﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ﴾ قال مجاهد: أتريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم؟" المسلم يحمل عقيدته ويصرح بها ولا يداهن أحدا فيها "قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: ثم وبخهم على وضعهم الإدهان في غير موضعه، وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به ويعرف به، ويعض عليه بالنواجذ؛ وتثنى عليه الخناصر؛ وتعقد عليه القلوب والأفئدة، ويحارب ويسالم لأجله، ولا يلتوى عنه يمنة ولا يسرة؛ ولا يكون للقلب التفات إلى غيره، ولا محاكمة إلا إليه، ولا مخاصمة إلا به؛ ولا اهتداء في طرق المطالب العالية إلا بنوره، ولا شفاء إلا به؛ فهو روح الوجود، وحياة العالم؛ ومدار السعادة؛ وقائد الفلاح، وطريق النجاة، وسبيل الرشاد، ونور البصائر. فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه، ولم ينزل للمداهنة، وإنما نزل بالحق وللحق؟! والمداهنة إنما تكون في باطل قوي لا تمكن إزالته، أو في حق ضعيف لا تمكن إقامته، فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق ويلتزم بعض الباطل، فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يداهن به؟" وهذا ما يسمى بالمدارات، وهي تجوز عند الحاجة إليها.